رحيق حبات العنب

ولماذا لا يعشقها وكل ما فيها يجذبه إليها، هدوؤها، رقتها، نفسها المرحة التي لا تخلو من الدعابة، عقلها الذي يجمع بين الاتزان والاستنارة، وبين الأنوثة التي تحرك فيه طاحونة الحواس وبين رجاحة عقلها الذي يختبئ خلف ثقافة واعية، فهي الطاقة التي تبعث فيه الأمل، شعلة لا تنطفئ تشع بهجة وحياةً، يتوارى خلف اتزانها امرأة أخرى مفعمة بالعشق والحب، ومتلهفة على كل لحظة حياة تجمعهما.

فيسعد بها مشدوهًا متحيرًا من براءتها التي تكسو جفن عينيها كطفلة صغيرة وبين أنوثتها ونضجها، لعقل امرأة ساحرة جميلة، لذا كانت لقاءاتهما ليست كزوجين بل أشبه بلقاء العاشقين، ولمَ لا؟

فحياتهما معًا شعور متجدد تعاهدا عليه من البداية، لذا فسنوات العمر التي صبغت حياتهما لم تغير من انجذابه لها، فكان كل لقاء يجمعهما يتأملها كمن يراها أول مرة، وكأن عينيه ترسم لها صورة جديدة غير سابقتها، وكأن عقله يسجل ملامحها ليطبعها في ذاكراته حتى لا تفارقه، فقبلتها له كمن يعتصر رحيق العنب ليستخلص عصيره، وفواح عطرها صار إدمانًا يُذهب عقله.

فلم يكن استنشاقه لعطرها بقدر استنشاقه لعطر أنوثتها التي خُلقت به وعليه، ولولاه ما أضفى لعطر الورود ذلك العبير من الشذا، فحين يعانقها لم يكن عناق اشتهاء، ولكن كمن يعيد إلصاق نصفه إليه ليكتمل عقله وقلبه وكيانه كله، كأنه يعيد ضلعه الذي خُلقت وخرجت منه إلى مكانه مرة أخرى.

إنه يعشقها حد الجنون.. ينتظر لقاءها بتلهف واشتياق، فمرور الوقت معها أشبه بسرعة الصوت، فالساعات تحولت إلى دقائق معدودة، فهو لا يريد أن يفقدها من بين ذراعيه، يهمس لها في أذنها:

- حبيبتي أعشقك.

فتجيبه بصوتها الهادئ:

- وأنا مثلك تمامًا أعشقك.

كلما أرادت النهوض جذبها إليه مرة أخرى، هو لا يريد مفارقتها ولا لحظة، وهي تنظر إليه وتضحك من فرط سعادتها لهذا الحب.

- حبيبي اتركني قليلًا سأعود إليك سريعًا. سأعد لنا مشروبًا دافئًا.

ليأتيها الرد سريعًا:

- يكفيني رحيق العنب من شفتيك، ففيهما دفء وارتواء.

تنظر إليه ضاحكة:

- ولكنك لا ترتوي أبدًا.

- وهل تريدين أن أرتوي؟

تضحك بسعادة غامرة:

- لا لا، بل أريدك هكذا دائمًا وأبدًا، تطلب الارتواء ولا ترتوي.

- ولكن هذا عذاب، إنك إذًا تستمتعين بعذابي هذا.

- لا يا حبيبي، بل أستمتع بعشقك هذا.

مر الوقت عليهما سريعًا، ولكنهما ظلا ملتصقين لبعض الوقت، يستمعان إلى أنفاس بعضهما كأنها لحن يعزف على أوتار الحياة. لكنه، في قرارة نفسه، بدأ يشعر بثقل غريب يتسلل إلى قلبه. كان يعلم أن هذا الحب، بكل جماله وجنونه، قد لا يدوم إلى الأبد. كان يخشى أن يكون كل هذا الدفء مجرد حلم، أو أن الزمن -ذلك السارق الصامت- سيسرق منهما ما يعيشان من أجله.

رفع عينيه إليها وهي تبتسم له، غافلة عن تلك العاصفة التي بدأت تتشكل في أعماقه.

همس لها بصوت خافت:

- حبيبتي.. ماذا لو فقدتك يومًا؟

توقفت ضحكتها للحظة، ونظرت إليه بعينين تلمعان بالدهشة والحنان.

- لن تفقدني.

قالتها بعفوية شديدة وبثقة طفولية:

- أنا هنا، بين ذراعيك، وفي كل نبضة من نبضاتك.

لكنه لم يقتنع. كان يعرف أن الحياة لا ترحم، وأن الدنيا سريعة في تقلبها، وأن دوام الحال من المحال، وأن الفراق سنة حتمية وُضعت في هذا الكون بعناية شديدة. هكذا تحدثه نفسه دائمًا، وهو يحاول الهروب من أفكاره.

جذبها إليه مرة أخرى، كمن يحاول أن يحفظها في روحه قبل أن تتلاشى. ثم، في لحظة صمت، قال:

- لو حدث ذلك، سأبحث عن رحيقك في كل حبة عنب تذوقتها، في كل رذاذ عطر استنشقته منك واختزنه عقلي، سأعيش لأجدك مرة أخرى، حتى لو كنت ذكرى.

فجأة، ارتجفت يدها بين يديه. نظرت إليه بقلق، ثم ابتسمت ابتسامة خافتة، كأنها شعرت بتلك الأمواج من المخاوف المتلاحقة التي تختلج صدره. 

ثم نظرت إليه وتأملته طويلًا وقد اختنق صوتها من هذا الإحساس والشعور بالخوف بإحساس لم تعتده من قبل وكأنها تودعه:

- وأنا، سأترك لك قلبي ليرافقك، حتى لو رحلت. أعلم أنك لن تنساني، أعلم أنني سأظل في ذاكرتك مهما حاولت الهروب، فعشقك لي وعشقي لك لم يكن مقدرًا حين التقينا، لقد جمعنا القدر بلطفه، وأعطانا بلطفه، وإذا كان الفراق حتمي فأظن أن رحمته ستسبق غايته.

وضعت رأسها على صدره، وكأنها تودع شيئًا لم يحدث بعد.

في تلك الليلة، لم يناما. وها هو قد بزغ ضوء الفجر، وهو واقف ساهم شاحب الوجه معتصرًا أحزانه وذكرياته أمام مرقدها الأخير ودموع عينيه تلاحق أنفاسه المتعبة التي لم تجف منذ رحيلها، غير مستوعب أن كل هذا الحب قد ذهب وتوارى خلف الثرى، ولم يتبقَّ له منها سوى ذكرياته التي توالت عليه وسط شواهد الموتى.

ليقف وحيدًا ينظر إلى السماء شاردًا، وقد أخفى رذاذ المطر ملامح وجهه لتمتزج بدموع عينيه، ثم يتذكر حبات العنب فيبتسم ابتسامة تحمل معاني كثيرة، لكنها تعبر عن مرارة الحزن الذي يعتصر فؤاده، وبحركة لا شعورية يلامس بلسانه شفتيه وكأنه يبحث عن شيء تذوقه قديمًا فيحاول جاهدًا استعادته، لكنه رذاذ المطر الذي امتزج بمرارة دموع عينيه متساقطًا وملامسًا شفتيه، ليخبره أن رحيق حبات العنب قد جفَّ ولم يعد له وجود.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

حقا أكثر من رائع وذاده روعة
هذآ الإحساس الصادق
والحب الحقيقى الذى يظهر
لى بين السطور
تحياتى وتقديرى لك ايها الطائر
الحزين 🙏❤
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

الصديقة العزيزة سعاد
حقيقة اخجلتم تواضعنا بكلماتكم الطيبه والتى نكن لها فى انفسنا تقديرا واحتراما ونشكركم على هذا التواصل الذى اضفى لنا الكثير
🙏🌹🙏🌹🙏
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

كلمات معبرة جدا ...
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا على مروركم الكريم وعلى 🙏🌹🙏🌹🙏
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.