من فوائد القراءة هي أن يعيش القارئ حياة الماضي والحاضر والمستقبل، يذهب لأمكنة وأزمنة لا يمكنه أبدًا أن يكون حاضرًا فيها، فما بالنا إذا قرأنا قصصًا تحكي تجارب إنسانية؟ ومن هذا المنطلق هيا بنا نقرأ معًا قصة (فات الميعاد) للقاص عبد الحميد البسيوني من الإسماعيلية، وهي منشورة في العدد الأول من عام 2021 في مجلة (المرجان).
وهي مجلة أدبية ثقافية يصدرها إقليم القناة وسيناء الثقافي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ص58-60.
تحكي القصة أحداثًا تبدو متكررة، حدثت وتحدث وسوف تحدث مستقبلًا، لكن بشخوص أخرى وتفاصيل دقيقة مختلفة باختلاف بصمات أصابع يد البشر متشابهة، لكننا نجدها متباينة عند التدقيق والغوص في الأحداث.
بطل قصة (فات الميعاد) ولد مات أبوه وهو صغير السن، لأم لم يترك لها زوجها شيئًا ترثه وتنفق منه على نفسها أو على تربية ابنها اليتيم الوحيد، فتتحول إلى امرأة أرملة ومعيلة، تخرج يوميًا من بيتها للسعي على رزقها لكي تأكل وتشرب وتنفق على تعليم وكساء ابنها الوحيد، إنها (شهيرة) بائعة الجميز.
وقد كتبت القصة باللغة العربية الفصحى في غالب المتن، وحضرت اللهجة العامية المصرية لا سيما في الحوار بين الشخصيات وعند التحدث مع البائعين بالمحال.
بدأت القصة بعدم شعور هذا الطفل البطل بأي خوف، فلم يكن يخاف من السير وحده في الطريق الرئيس الرابط بين قريته والمدينة، ولم تكن تخيفه السيارات المسرعة فوق إسفلت الطريق السريع الذي قد يمشي فيه للمرة الأولى، ومن الطبيعي أن يشعر الطفل بالخوف أو القلق من وقت إلى آخر.
مثل انتقاله لبيت جديد أو ذهابه إلى مكان للمرة الأولى، لكن عدم خوفه كان بسبب أنه يتمنى أن يعثر على دكان يبيع (الشباشب) في مركز المدينة؛ لذا كان يعدو بخطوات سريعة نحو هدفه.
تدور أحداث القصة بين إحدى قرى مركز أجا محافظة الدقهلية التي تبعد عن مدينة أجا مركز العاصمة نحو عشرة كيلومترات، وذلك في النصف الأول من القصة الذي يُعد ذكرياتٍ على لسان البطل الراوي بتقنية الفلاش باك، أما النصف الثاني والأخير من القصة كان في مدينة المنصورة حيث كان الراوي يدرس.
فلقد درس في كلية الحقوق ثم في مكتبه حين أصبح محاميًا، فإقامته الكاملة كانت فيها وزوجه والأولاد، ولقد أصبحت قريته التي نشأ فيها تبعد عن المنصورة نصف ساعة أو أكثر قليلًا، وكانت وسيلة الانتقال للبطل الراوي في الجزء الأول حين كان طفلًا صغيرًا هي السير على الأقدام.
فقد قرر أن يذهب إلى مركز المدينة مشيًا على قدميه حتى يوفر ثمن ركوب وسيلة نقل؛ كان يخرج مبكرًا من الصباح ويعود آخر النهار، لتقول له أمه: «كنت فين طول النهار يا ضنايا، أكلت ولا لسه»، والغرض من هذا المشوار أن يعثر على دكان يبيع الشباشب في مركز المدينة الذي يبعد عن قريته عشرة كيلومترات.
ورغم صغر سنه إلا أنه ظل لأشهر يجمع خمسة قروش لشراء (شبشب) لأمه، وكل ما كان يخشاه هو إلا تكفي القروش الخمسة التي جمعها بصعوبة في الأشهر الفائتة ثمن (الشبشب) الذي يحلم أن تلبسه أمه بدلًا من تجولها حافية في شوارع قريته والقرى المجاورة وهي تحمل مشنة الجميز مصدر رزقهم الوحيد بعد موت الوالد.
وماذا كان يلبس هذا الصبي في أثناء تلك الرحلة في البحث عن محل يبيع (الشباشب) حاملًا القروش الخمسة؟ كان يرتدي عباءة، ويضع يده في جيب جلبابه ويتحسس الورقة النقدية التي معه في بِشر، فقد كان يقبض على حلمه، فحلمه هو شراء شبشب لأمه بخمسة قروش، ظل يحكي لنا المؤلف عبد الحميد البسيوني رأي البطل في رحلة سيره من قريته حتى
وصل لمدينة أجا، وتفاصيل المباني التي كانت موجودة داخل المدينة، وكل ما شاهده طوال الطريق السريع الموازي لترعة المنصورة، كانت العين وحاسة البصر والتأمل الكاميرا التي تصور كل ما يحيط به والجو أيضًا، فقد وصف حال الطقس في ذاك اليوم بقوله: «ولا قرص الشمس الذي بدأ يبصبص ناحيته لأن الجو لم يكن صيفًا بعد».
حتى يثبت القاص أنه تحرك في الصباح الباكر مارًا بالترعة الكبيرة التي يسمونها المنصورة قال: «أخذ يجد في السير، الأشجار عن يمينه عالية وكثيفة يطوحها الهواء ويسقط منها الندى»، إلى أن وصل هذا البطل الصغير مدينة أجا، وبمجرد أن شم رائحة الطعمية (حاسة الشم) لم يستطع أن يتمالك نفسه من شدة الجوع.
فهو في النهاية طفل استيقظ مبكرًا ومشى من قريته إلى مركز المدينة الذي يبعد عشرة كيلومترات، فقال: «بعد قليل هجمت عليه الرائحة، تخللت خياشيمه رائحة الطعمية، ورجل عجوز أمامه فاترينة زجاجية يقلب أقراصها الصغيرة في طاسة الزيت، قرصه الجوع فلم يتمكن من الثَّبات، ودون تفكير تخطى الشارع وأخرج الورقة.
هات بقرش يا عم... لقد أصابه الإجهاد والتعب والغثيان بسبب المشي الطويل، وأخذ يهدئ من مشيته، شعر بجوع حاد وألم في ساقيه وبطنه، وبالطبع يشعر الجسد دائمًا بالجوع، أخذ الرجل الورقة أم خمسة قروش، وأعطاه أربعة قروش فضية باهتة.
وضعها في جيبه بعد أن وضع له الرجل عدة أقراص طعمية ساخنة يخرج منها البخار في رغيف أبيض جميل، عاد إلى جسر الترعة وجلس أمام الماء، أخذ يلتهم الرغيف في تلذذ».
مشي الطفل مدة ومسافات طويلة يعد من الأنشطة البدنية المكثفة، فإنه يحرق مستويات الجلوكوز في الجسم بسرعة، الذي يبذل الطاقة يكون لديه رغبة في تناول الطعام بين الحين والآخر.
وإلى أن أنهى تناول رغيف الطعمية الساخنة، وشبع وامتلأت بطنه وأخذ نفسه من طول الطريق «لمح بعد الفاترينة مكتبة كبيرة إلى جوارها دكان صغير يفرش أمامه صاحبه منضدة واسعة يرص فوقها أدوات المنزل، ولمح الشبشب، زاهيًا يناديه فذهب إليه، قلبه بين يديه وتحقق أنه يناسب مقاس رجل أمه».
كان يعرف مقاس رجل أمه بمجرد النظر، وفي اللحظة التي أمسكه بين يديه، وبعدما أعجبه، بدأ يسأل البائع عن سعره ويطلب منه التخفيض «بكم يا عم؟ خمسة قروش، أسقط في يده، هوى قلبه بين ضلوعه، أخذ يستجدي الرجل أن يجعلهم أربعة قروش فقط؛ هما اللي معايا يا عم، رد البائع بفظاظة؛ اللي ما معهوش ما يلزموش.
هتمشي ولا أندهلك العسكري من المركز»، وكما نرى دار الحوار بينهما بلهجة عامية تتناسب مع لغة السوق، فهي اللغة التي يستخدمها البائع والمشتري في الشارع وفي المعاملات التجارية، وقد تغير حال هذا الصبي البطل من عدم الشعور بالخوف منذ لحظة تحركه من بيته في الصباح الباكر إلى شعور كبير بالخوف الممزوج بالحزن «خاف، أخذته رعشة، تكونت في عينيه دموع ثم تحجرت الدموع في مقلتيه.
ففي مشوار العودة خائبًا العشرة كيلومترات مرة أخرى أغشت الدموع عينيه وكادت السيارات تخبطه، كوّن الألم بداخله جدارًا سيظل يكبر داخله ليغير حياته كاملة»، الخوف هو شعور بعدم الارتياح، يصيب الطفل كردّ فعل مفهوم لتعرضه إلى حدث مؤثر، تتوافق التصرفات التي تنم عن الخوف مع معاناة جسدية أو عاطفية أو ذهنية «عندما وصل الدار، وجد أمه تضع المشنة وسط الدار.
كنت فين طول النهار يا ضنايا، أكلت ولا لسه، ثمة بركان بداخله، لن يهمد طوال العمر فافترش الحصيرة ونام»، ظهر الإنهاك عليه وهو أحد الأعراض الجسدية للخوف؛ في حين من الأعراض العاطفية والذهنية للخوف التأثر وقلة الثقة بالنفس والشعور بالعزلة والارتباك وعدم القدرة على التركيز واليأس والغضب والحزن والشعور بالذنب.
وبالفعل كل هذه المشاعر والأحاسيس قد شعر بها هذا الطفل الذي لم يحقق هدف شراء شبشب لأمه شهيرة.
ولأن الكاتب عبد الحميد البسيوني يرسم لنا الجوانب النفسية والمكانية والاجتماعية لشخصية هذا الصبي بطل قصته في ذلك اليوم الذي ابتدأ بشروق الشمس بسعادة وعدم خوف إلى غروب الشمس بخوف وحزن وألم في صدره حتى رمى بنفسه على الحصير ونام، وقبل أن يبدأ الكاتب الجزء الثاني من القصة.
رسم فاصلًا يعد تمهيدًا لمشهد جديد في يوم آخر، لكن البعد الاجتماعي للبطل قد تغير بسبب مرور سنوات طويلة حتى وصل إلى هذا اليوم، «الجدار ساعده في عدم الاهتمام بهمس زملاء مدرسة الزراعة فيما بعد عندما يلقبونه بابن شهيرة بائعة الجميز، ولم ير أيضًا زملاء طلبة كلية حقوق المنصورة التي انتسب إليها.
لكنه ظل متفوقًا يحقق أمنية أمه التي حولت عرقها وشقاءها إلى دمه الذي يسير في عروقه بعد أن فشل في صغره في أن يحمي قدميها من التآكل وسط تراب البلد وكلابها المسعورة، هو الآن محامٍ معروف»؛ يظهر لنا من الفقرة السابقة أنه عمل معجزة تعليمية وتفوق على نفسه وعلى أقرانه من الميسورين ماديًا، وبعد أن حصل على دبلوم الزراعة التحق بدراسة الثانوية العامة في المنزل ما مكنه من الانتساب لكلية الحقوق.
لأنها من الكليات التي لا تقبل الالتحاق بالدراسة بها إلا لمن هم حاصلون على الثانوية العامة، على عكس الكليات التي عُرفت ببرنامج للتعليم المفتوح وقبول الحاصلين على الدبلومات الفنية كالزراعية والصناعية والتجارية، في كل ذلك نتلمس صورة من صور المجتمع في كثير من السرد القصصي، فمن وضعية مزرية وواقع اجتماعي صعب استطاع البطل باجتهاده في التعليم أن «يتمكن من امتلاك شقة على نيل المنصورة وزوجة وأولاد»، فسبحان مغير الأحوال.
وهنا بدأ الكاتب يومًا جديدًا في حياة البطل المحامي المشهور، وهو يوم 21 مارس المعروف بيوم الأم أو عيد الأم، وأيضًا بدأت الحكاية في نصفها الثاني من صباح ذلك اليوم، وستنتهي كما سنقرأ بعد قليل آخر نهار يومه الأول عندما كان صبيًا في نصف القصة الأول «صحا ذات صباح على ضجتهم وهم يطلبون منه نقودًا كي يشتروا لأمهم هدية عيد الأم، الأغنيات التي كانت تطنطن طوال أيام متتالية في الراديو والتلفزيون.
أيقظت المشهد الذي قد نام طويلًا وسط مشاغله وثقل العالم الذي كبس على أنفاسه كل هذه السنوات، لكن لماذا هذه السنة بالذات؟» في تلك اللحظة التي يطلب منه أولاده نقودًا لشراء هدية عيد الأم لأمهم وزوجته تذكر فيها ما جرى في يومه الذي ذهب فيه لمدينة أجا لشراء شبشب هدية لأمه شهيرة، هي اللحظة التي استرجعت فيها الذاكرة أحداث ذلك اليوم بتفاصيله الكثيرة (فلاش باك).
كتب الوارث الحسن في طنجة الأدبية يوم 16 - 06 – 2011 يقول: «لقد ارتكزت قراءة النص الأدبي قراءة اجتماعية على محور العلاقة بين الأديب (الفرد المبدع) وبين النص على اعتبار أن كلًا منهما مفتاح لفهم وقراءة الآخر، واهتمت بدراسة الواقع الاجتماعي، وإشكالياته وقضاياه».
انتقال الكاتب عبد الحميد البسيوني في قصته (فات الميعاد) من عنصر الذات إلى الجانب الاجتماعي في علاقة البطل بأمه «مرت الأعوام السابقة، وجلب أمه معه إلى شقة المنصورة، بعد أشهر قليلة أصرت على العودة إلى البلد؛ عايزة أموت في داري، كان يزورها أحيانًا لما يتمكن من خطف لحظات من مشاغله المتراكمة، لكنه لم يزرها منذ مدة حين غرق في مشكلات الأولاد ومطالب الزوجة».
الألم النفسي أو الشدة النفسية أو الشدة العاطفية شعور بغيض ينشأ من أصل نفسي لا جسدي، فقد وصفه (إدوين إس. شنايدمان) -وهو رائد في مجال دراسة السلوك الانتحاري- بأنه «حجم الأذى الذي يتعرّض له الإنسان، إنها معاناة ذهنية؛ عذاب ذهني»، وهذا الألم النفسي هو الذي ألم بذلك المحامي المعروف والمشغول عن أمه «لماذا انبثق الألم هذه المرة قويًا، شيء ما يسري في دمه، في أحشائه.
يزن في رأسه دون سبب واضح، ارتدى ملابسه وهم بالذهاب إلى المكتب لإنهاء الأعمال المتأخرة...».
عندما كان صبيًا فقيرًا كان يلبس الجلباب أو سيالة، واليوم يلبس بدلة كاملة لأنه محامٍ، لقد كان في قدميه شبشب أما اليوم فحذاء جلدي فاخر يتناسب مع الهيئة الاجتماعية والوظيفية، فهو يمتلك شقة على النيل وسيارة ومكتب محاماة، توجد أوصاف أخرى للألم النفسي، مثل «مجموعة واسعة من التجارب الذاتية التي تتميز بأنها بمنزلة إدراك للتغيرات السلبية التي تتعرض لها الذات التي تؤثر في وظائفها، التي تُرافقها مشاعر سلبية».
«لكنه عندما أدار سيارته سمع الصوت المباغت؛ ست الحبايب يا حبيبة، كان راديو السيارة مفتوحًا، الصوت يصب في عروقه زيتًا مغليًا يحرق خلاياه» أو أن الألم النفسي «تجربة ذاتية منتشرة مختلفة عن الألم الجسدي الممكن تحديده في كثير من الأحيان، إذ إنه يرتبط بمنبهات جسدية ضارّة»، وبالفعل قرر المحامي إلغاء ارتباطاته كافة والتوجه نحو شراء هدية عيد الأم لأمه شهيرة.
وبدأ يصف الكاتب على لسان البطل المكان والمحل والهدية كما فعل في المرة الأولى حينما كان صبيًا لا يمتلك سوى ورقة خمسة قروش، لكنه فشل يومها في شراء الشبشب لأمه بسبب شرائه سندويتش الطعمية الساخنة بقرش واحد من الخمسة، فصار معه أربعة قروش، وكان سعر الشبشب خمسة قروش، وكان البائع قد رفض يومها بيعه له بهذا السعر رغم أنه قد أمسك بالشبشب وتأكد من أنه مناسب لأمه وعلى مقاس رجلها.
«لدهشته ألفى نفسه يذهب إلى شارع السكة الجديدة حيث مَحَالّ بيع الأحذية، كان قد اشترى لزوجته من محل معروف حذاء جيدًا، استقبله صاحب المحل بترحاب زائد فإنه أخذ يدور بعينيه متأملًا الأحذية الحريمي محاولًا تذكر مقاس أمه، فانتقى واحدًا أسود اللون من الجلد الطبيعي دون كعب وقال للبائع: من فضلك لفه لفة هدايا، فلفه الرجل بورق لامع».
بالطبع ما دار بين البطل المحامي وصاحب محل الأحذية من لحظة دخوله حتى خروجه يظهر الفرق الكبير بين ما حدث في الصغر وما حدث في الكبر، ويظهر فرق المعاملة الذي بدا كالمسافة بين السماء والأرض، والسبب معروف ألا وهو المظاهر وهيئة الإنسان الخارجية، فقد أصبحت ظاهرة الاهتمام بالمظاهر الخداعة مشكلة تؤرق المجتمع وتشكل عبئًا كبيرًا على الأسر والأفراد.
تُبيّن الطريقة التي نعرض بها آلامنا النفسية اجتماعيًا كالبكاء أو الصراخ أو الشكوى الهدف الذي يُظهر أننا في حاجة، فالطريق تحتاج من السكة الجديدة في المنصورة إلى القرية -يطلق عليها أهل المدن البلد- بالسيارة نحو نصف ساعة أو أكثر قليلًا، لقد انطلق البطل المحامي بعد أن نجح هذه المرة في شراء هدية عيد الأم لشهيرة، كانت هدية فخمة رغم أنه غير متحقِّق إن كانت مناسبة لها أم لا على عكس المرة الأولى التي فشل فيها وهو صغير.
فقد كان متيقِّنا تمامًا من أنها مناسبة لها، «وعندما ركب السيارة وجد نفسه مندفعًا نحو طريق البلد، نصف ساعة أو أكثر قليلًا، كانت الشمس على وشك الغروب، والقرية تنهي يومها المرير، هو لن يذهب إلى الدار فهي لم تعد موجودة، اشتم رائحة الغيطان وتفادي الفلاحين العائدين في كسل، كذلك روث البهائم المتناثر في الشارع بعد أن ركن سيارته في مدخل البلد».
وفي اعتقادي أن المؤلف عبد الحميد البسيوني عندما ذكر أن المدة الزمنية التي تستغرقها السيارة من المدينة (المنصورة) التي يسكنها هذا المحامي إلى القرية التي توجد فيه أمه تبلغ نصف ساعة أو يزيد قليلًا، كانت إشارة في منتهى الذكاء، فهو يريد أن يقول إن البطل حين كان صغيرًا فقيرًا لا يمتلك المال لشراء هدية قيمة لأمه ولا سيارة يركبها غير شبشب بلاستيك يسير به عشرة كيلومترات بين قريته ومركز العاصمة ذهابًا ثم عشرة مثلهم إيابًا؛ أي عشرون كيلومترًا.
في حين الآن وقد أصبحَ يمتلك كل شيء شغلته الدنيا من عمل وزوجة وأولاد عن الذهاب إليها؛ وفجأة يفجر الكاتب في وجهنا حل اللغز، ويدهشنا بخاتمة غير تقليدية، «اخترق كالمُنوم حقل البرسيم حتى يختصر الطريق إلى مقابرهم، لمح شجرة النبق العجوز أمام قبر أمه، وجد باب المقبرة مغلقًا بسلك رفيع أسود، أزاحه ودخل في هدوء، كان يحمل الصندوق المزركش بيده اليمنى ووضع اليسرى على حافة القبر.
السلام عليكِ يا أمي، جبتلك هدية عيد الأم ووضع الصندوق على الحافة، كانت الدمعة المتحجرة القديمة قد بدأت تذوب داخل عينيه وتتساقط، جففها بهدوء، وبهدوء خرج، أغلق باب المقبرة كما كان ثم ذهب إلى سيارته»، هنا نستطيع أن نقول (فات الميعاد).
نعود مرة أخرى لعنوان القصة، فهو عنوان موفق جدًا للقصة يتناسب مع الجو النفسي لها ومع شخوصها وأحداثها السردية، وكأن المؤلف رسم لنا وجهين في يومين متباينين بينهما فارق زمني يزيد عن ربع قرن، الوجه الأول في يوم الرحلة الأولى لشراء الشبشب الذي انتهى عند غروب الشمس في الدار بأن «تكونت في عينيه دموعًا، تحجرت الدموع في مقلتيه».
وانتهى هذا اليوم بأن «فافترش الحصيرة ونام»؛ في حين في الوجه الثاني في يوم عيد الأم ونجاحه في شراء الشبشب انتهى أيضًا عند الغروب في المقابر «كانت الدمعة المتحجرة القديمة قد بدأت تذوب داخل عينيه وتتساقط، جففها بهدوء، وبهدوء خرج»، وانتهى هذا اليوم بـ «وبهدوء خرج.
أغلق باب المقبرة كما كان ثم ذهب إلى سيارته»، لقد كوّن الألم داخله جدارًا سيظل يكبر داخله ليغير حياته كاملة، قد يشعر مرضى الاضطراب الحدي بمشاعر سلبية، ويعانون المرارة الشديدة عوضًا عن الحزن والعار والإذلال بدلًا من الإحراج المعتدل، والحنق بدلًا من الانزعاج، والذُعر بدلًا من التوتر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.