من مرتفعات جبال الأنديز الشاهقة، بدأت حكاية درنة متواضعة الشكل، عظيمة الأثر، هي البطاطس. هذه الثمرة الأرضية، التي استأنسها شعب الإنكا وطور منها آلاف الأصناف، لم تكن غذاء فحسب، بل جزءًا من حضارتهم. انطلقت في رحلة ملحمية عبر المحيطات لتصل إلى القارة العجوز، حيث قوبلت بالريبة والرفض قبل أن تثبت جدارتها صفتها منقذًا من المجاعات وعنصر أساسي في غذاء الملايين.
يتتبع هذا المقال مسيرة البطاطس التاريخية، من اكتشافها الأول، مرورًا بوصولها المثير للجدل إلى أوروبا، وانتهاءً بتربعها على عرش الأغذية العالمية بفضل جهود رواد مثل أنطوان بارمنتييه، إنها قصة عن الابتكار الزراعي والتأثير العميق للغذاء على مسار التاريخ البشري.
موطن البطاطس الأصلي
اكتشفت قبائل الإنكا البطاطس في جبال الأنديز بأمريكا الجنوبية، في المناطق التي تُعرف حاليًا بالبيرو وبوليفيا والإكوادور، حيث إنهم في أثناء ترحالهم عثروا على نبات لا يتأثر بدرجات الحرارة المنخفضة ويمثل غذاءً صحيًّا مشبعًا بالنسبة لهم.
وبسبب ذلك قرروا البقاء في هذه الأرض وتطوير زراعة البطاطس بأنواعها المختلفة شيئًا فشيئًا، وتمكنوا من التوصل عبر آلاف السنين إلى إنتاج خمسة آلاف نوع من البطاطس، لكل منها اسمه الذي يُستمد من شكله وما يرتبط به من الطبيعة حوله، وتمكنوا بمساعدة المصاطب أو المدرجات الزراعية التي أنشؤوها من زيادة الإنتاج وتطويره على مدار السنوات.
عبور المحيط: وصول البطاطس إلى أوروبا ومواجهة الرفض الأولي
تزامن اكتشاف البطاطس مع اكتشاف الإسبان للأمريكتين، فنقلوها إلى بلادهم وبدأوا بزراعتها، ومن ثم انتقلت إلى أوروبا.
وهناك عامل سكانها البطاطس نباتًا منبوذًا؛ فهم لا يعرفون موطنه ولأول مرة يرونه، وخصوصًا أن أوراقه تشبه أوراق نباتات سامة من عائلة الباذنجانيات كالداتورا والبلادونا، وشاع بين الناس أنه مسبب للأمراض، ما أدى إلى النفور من تناوله، وبدلًا من ذلك استخدمت البطاطس نباتًا للزينة وربما لإطعام الحيوانات.
من نبات زينة إلى طعام للشعوب.. دور بارمنتييه والمجاعات
يوجد سبب قوي دفع سكان أوروبا لتناول البطاطس، ألا وهو انتشار المجاعات، فبدأ الاهتمام بالبطاطس أول مرة بصفتها غذاءً في فرنسا بفضل عالم يدعى بارمنتييه، بعد أن أُسر بارمنتييه خلال حرب السنوات السبع وتناول البطاطس في السجن البروسي، أدرك قيمتها الغذائية وأراد إدخالها إلى فرنسا.
فلجأ إلى أساليب عدة ذكية لضمان انتشار تناولها بين الناس:
- زرع حقول بطاطس قرب باريس وجعلها تحت حراسة مشددة نهارًا فقط، ما أثار فضول الناس وبدأوا "يسرقونها" لزراعتها بأنفسهم.
- قدَّم أطباقًا مصنوعة من البطاطس في ولائم حضرها الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت.
- نشر بحوثًا طبية وغذائية تُظهر فوائد البطاطس في مقاومة المجاعة وسوء التغذية.
البطاطس غذاء عالمي.. محاربة الجوع ودعم النمو السكاني
حارب محصول البطاطس الكثير من المجاعات وساعد دول أوروبا على الزيادة من كثافتها السكانية، ولا يمكن أن تزيد قوة البلد إلا وفقًا لزيادة القوى العاملة المطلوبة في الأعمال المختلفة.
في النهاية، تمكنت قبائل الأنكا من الحفاظ على موروثاتها من البطاطس عبر الأجيال، ولا زالوا إلى الآن يقدّسون أرضهم التي تمدهم بهذا النبات الساحر.
وهكذا، فإن رحلة البطاطس من مرتفعات الأنديز إلى موائد العالم لم تكن انتقال نبات فحسب، بل كانت قصة تحول ثقافي واجتماعي واقتصادي.
ولقد أثبتت هذه الدرنة المتواضعة أنها قوة جبارة في مواجهة الجوع، وعامل حاسم في تغيير التركيبة السكانية والأنماط الغذائية لشعوب برمتها. بفضل رؤية الإنكا القديمة وجهود رواد مثل بارمنتييه، أصبحت البطاطس اليوم عنصرًا لا غنى عنه في المطبخ العالمي، وشاهدًا على قدرة الطبيعة على توفير الغذاء، وقدرة الإنسان على الاكتشاف والابتكار. إن قصة البطاطس تذكرنا بأن أبسط الأشياء يمكن أن تحمل في طياتها أعظم التأثيرات على مسيرة الحضارة الإنسانية.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.