يشير الوقت إلى الساعة التاسعة صباحًا، صفوان لا يزال نائمًا، دخلت أمه لغرفته لتوقظه، انحنت عليه وقبَّلته قائلة: صفوان أفِق من النوم يا بني، لقد تأخر الوقت.
تقلَّب في فراشه وتثاءب مجيبًا: حاضر يا أمي، ها أنا ذا لقد أفقت.
قبل أن تخرج أم صفوان من الغرفة طلبت منه أن يجمع فراشه، وأن يرتب الأشياء في أمكنتها، ثم يغسل وجهه وينزل لتناول الفطور.
تتناول العائلة وجبة الفطور، يقرأ الأب خبرًا في الصحيفة عن ندرة المياه وتأثيرها سلبًا في حياة الإنسان والحيوانات والنباتات مستقبلًا.
بعض مناطق العالم أصابها الجفاف بسبب عدم سقوط الأمطار، وتبذير الإنسان في المياه سبب آخر من أسباب ندرتها، وإن لم يتعلم الإنسان ترشيد استهلاك المياه فسيقع فيما لا تُحمد عقباه، على بني البشر أن يحافظوا على هذه الثروة الطبيعية.
أيَّدت الأم رأي زوجها حول نقص المياه بسبب السلوك غير اللائق الذي يقوم به الإنسان، هذا ما أقوله دائمًا: علينا أن نحتاط جيدًا حين نستعمل الماء وإلا لن نبقى أحياء.
أنا بدوري أبذل قصارى جهدي للحفاظ على الماء، فلا أشغِّل غسالة الأواني إلا إن كانت كثيرة، أما إن كانت قليلة فأقوم بغسلها في دلو صغير من الماء، كذا لا أستعمل ماكينة تنظيف الملابس إلا مرة واحدة في الأسبوع.
وافقتها صفاء في صحة كلامها ناقلة على أسماع العائلة ما درَّسته لهم معلمة الفصل عن أهمية الماء لبقاء الإنسان على قيد الحياة.
نهض صفوان لغسل أسنانه بالفرشاة والمعجون، يحرِّك فرشاة الأسنان ذات اليمين وذات الشمال والماء يضيع وهو غير مبالٍ.
تبعته صفاء لتجده قد ترك صنبور الماء مفتوحًا مجددًا، فنهته عن التبذير في الماء بصوتها الحليم: لا تهدر الماء هكذا يا أخي، ألم نقل لك إن العالم يعيش أزمة نقص في المياه؟!
كوب ماء واحد يكفي لتنظيف أسنانك، لو كان الأمر بيدي لمنعت عنك الماء حتى تعلم قيمته.
كما في نهاية كل أسبوع توجَّه صفوان إلى الحمام للاستحمام، فحذَّرته أمه من تبذير الماء وأكَّدت عليه أن يغلق الصنبور جيدًا حال الانتهاء من الاستحمام، أجابها: حاضر يا أمي سأقوم بما تأمريني به. ولكنه فعل ما يفعله كل مرة؛ ترك صنبور المياه مفتوحًا حتى امتلأ حوض الاستحمام ووضع فيه البطة والإوزة وسفينته المطاطية وظل يلعب بداخله وقتًا طويلًا.
بعد تأخره طرقت أمه باب الحمام آمرة إياه: توقَّف عن اللعب بالماء يا صفوان، اخرج من الحمام الآن.
بعد خروجه من الحمام طلب صفوان من أمه مالًا ليشتري مصاصته المفضلة من العم جلال بائع الحلوى.
أعطته المال وذهب إلى الحديقة القريبة من المنزل ولما وصل لم يجد العم جلال فقرر انتظاره.
بينما يجلس صفوان في الحديقة منتظرًا قدوم العم جلال، بدأ يتأمل نافورة الماء المملوءة عن آخرها، متخيلًا نفسه يغطس فيها هو وألعابه المطاطية.
فجأة سمع صوتًا قويًا، فارتعب قائلًا: ما هذا الصوت؟
نظر صفوان أمامه فوجد كائنًا غريبًا، فقال متعجبًا: يا إلهي ما هذا المخلوق الصغير؟! كم هو جميل! خِلقته ليست مثل خلقتنا نحن البشر؛ لونه رمادي ووجهه لطيف وظريف.
بدا المخلوق الغريب قلقًا، ولما رأى صفوان يقترب منه خاف، فتحول لونه الرمادي إلى اللون الأصفر، لهذا أطلق عليه اسم صفرون.
ذُهل صفوان مما رأته عيناه من قدرته الخارقة والعجيبة على تغيير لونه حسب تغير مشاعره التي تظهر على جسمه.
اقترب منه أكثر وسأله بلطف: من أنت، وما اسمك؟
أجابه: اسمي صفرون، أنا جئت من الفضاء في رحلة للبحث عن الماء.
ماذا تقول؟
سأحكي لك قصتي من بدايتها: منذ سنين تعرَّض كوكبنا للجفاف، فبدأ بنو جلدتنا يموتون عطشًا، ونتج عن نقص المياه حروب ضارية بين سكان كوكبنا، مات فيها كثيرون.
لم نترك جزءًا في مكان عيشنا إلا وبحثنا فيه عن الماء، ولكننا لم نجده، ولما لم ينفعنا البقاء دون ماء قرر أبي أن يصنع مركبة فضائية تسافر بين الكواكب والمجرات، وكلفني بالقيام برحلة البحث عن الماء الذي يبقينا أحياء.
ركبت مركبة أبي الفضائية، وانطلقت في رحلتي بين النجوم والكواكب عبر الفضاء، كنت سعيدًا وأنا أنظر إلى الشمس الساطعة فرحًا بأشعتها الجميلة متباهيًا بنفسي كوني أقود مركبة فضائية.
فجأة ظهر أمامي مذنَّب ضخم مشتعل بنار ملتهبة، وبدأ يتجه نحوي شيئًا فشيئًا، فخفت كثيرًا وأنا أصرخ طالبًا النجدة، إلى أن ارتطم بمركبتي حتى سقطت هنا كما ترى.
قال صفوان: على ذكر الماء أنا أشعر بعطش شديد فلم أشرب منذ الصباح، سأشرب من صنبور الحديقة.
فتح الصنبور الموجود في الحديقة وبدأ الماء يتدفق على الأرض دون انقطاع.
ابتهج صفرون في ذهول وصرخ بصوت تغمره الفرحة: إنه الماء، لقد وجدت الماء، سنشرب الماء وسنبقى أحياء، وسنغسل أجسامنا من العوالق التي تصيبنا بالحكة؛ إنه الماء، إنه الحياة.
ابتسم صفوان قائلًا: ذكَّرتني بأمي حين تريد تعليمي قيمة الماء، تقول: عندما نستعمل الماء بطريقة جيدة لا نمرض، وبالتالي لا نضطر لتناول الدواء، فالماء يصلح للشرب بالأساس، وبالماء نبقى أحياء.
وتضيف قائلة: إذا غسلت به يديك مع قليل من الصابون يقيك من الجراثيم الصغيرة التي تسبب مرض الإسهال والتهاب المعدة ومن أمراض أخرى توجد بالأمعاء، وبالماء ننظف أجسامنا ونغسل ثيابنا من الأوساخ، وبه نسقي الزرع والحرث.
الماء هو الحياة كلها يا ولدي.
بحث صفرون حوله عن المركبة متسائلًا: أين اختفت مركبتي، وأين محفظتي التي كانت فوق ظهري؟
أرجو ألا تكون قد ضاعت مني، ففيها خارطة الفضاء؛ من دونها لن أستطيع العودة إلى عائلتي.
بعدما نظر صفوان إلى الأعلى أشار لصفرون بإصبعه: انظر هناك إنها مركبتك الفضائية لقد بقيت عالقة فوق الشجرة، وتلك محفظتك معلقة على الغصن، لا تخف، لم تضع منك خارطة الفضاء.
حزن صفرون كثيرًا لرؤية مركبته الفضائية فوق الشجرة وبها خدوش خفيفة، وتذكَّر وصية والده له بالمحافظة على المركبة والعودة سريعًا بالماء.
نطق بصوت مسموع: اشتقت إلى أبي وأمي، أريد العودة إلى عائلتي الآن.
أتمنى ألا تكون المركبة قد تعطلت لأستطيع العودة إلى عائلتي.
إن تعطلت مركبتي، كيف سأعود إلى عائلتي؟
سأله صفوان: أين هي عائلتك؟ ولماذا لم تأتِ معك؟
ردَّ صفرون: عائلتي تسكن في بيتنا الذي يشبه صخرة ضخمة على شكل مغارة في الفضاء. ولم تأتِ معي لأن أشكالنا متغيرة؛ تتمدد أجسامنا وتتقلص وتتلون على حسب الأوضاع التي نمر بها. والمركبة في هذه الحالة لا تتحمل حمل أكثر من شخص واحد.
جلس صفرون على الأرض بعد أن عاد إلى لونه الرمادي وبدت على ملامح وجهه مشاعر الحزن وهو يتذكر عائلته في الفضاء.
وضع صفوان يده على كتفه مواسيًا: لا تحزن، ستعمل مركبتك الفضائية، وستحلِّق بها من جديد في الفضاء لتعود إلى عائلتك، وعرض عليه أن يذهب معه إلى البيت، شارحًا له فائدة الذهاب معه: أمي حريصة على الحفاظ على الماء، ومما لا شك فيه أنها ستجد لك وسيلة تنقله بها من صنبور الحديقة إلى مركبتك، دون أن تضيع منه قطرة واحدة.
دخل صفوان إلى البيت ليعرِّف أمه على صديقه صفرون، ونادى عليها بصوت مرتفع: أمي أتيت لك بمفاجأة رائعة.
ردَّت والدته: أنا في المطبخ، اخلع حذاءك قبل أن تدخل، وضعه وراء الباب في المكان المخصص للأحذية.
وقف صفرون وسط المنزل ينظر إلى ما فيه من أشياء.
رأى إبريق الشاي لا يزال فوق مائدة الفطور فظنه مركبة، وقبل أن يلمسه بيده حذره صفوان إياك أن تلمسه، ربما لا يزال ساخنًا. ذاك إبريق شاي هو ليس مركبة فضائية، اجلس هنا وانتظرني سأعود حالًا.
توجه صفوان إلى المطبخ لرؤية أمه، فسألته عن المفاجأة، أمسك يدها وأخذها إلى صالون البيت: دعيني أعرفك به، إنه صفرون، التقيت به في الحديقة، جاء من الفضاء للبحث عن الماء. وسقطت مركبته الفضائية فوق الشجرة في وسط الحديقة، وهو يحتاج إلى وسيلة لنقل الماء إليها من صنبور الحديقة، وأتمنى أن تساعديه على إيجاد حل لمشكلته هذه.
تفاجأت الأم بوجود صفرون يحمل إبريق الشاي، فصرخت بصوت خائف مفزوع: يا إلهي، ما هذا المخلوق الأصفر؟!
كادت أن يُغشى عليها لولا أن جلست على الأريكة، سارع صفوان إليها قائلًا: لا تخافي يا أمي إنه صديقي ولن يؤذيك أبدًا، خذي اشربي كوب الماء هذا وستكونين بخير. ألستِ تقولين عن الماء إنه الحياة، صفرون وعائلته سيموتون عطشًا إن ظلوا دون ماء، أرجوكِ أمي ساعديه على نقل الماء إلى مركبته، وحدك تستطيعين إيجاد حل لهذه المشكلة.
قالت بصوت متقطع: اذهب إلى غرفتك الآن وخذه معك قبل أن تراه أختك فتفزع، ولا تخرج منها حتى أنادي عليك.
ذهبا إلى الغرفة ورحَّب به بحفاوة: ادخل يا صديقي، مرحبًا بك في غرفتي، هي تطل على الحديقة مباشرة، ثم سأله: كيف تبدو لك الغرفة؟
قال صفرون: إنها جميلة، حسنًا ستبقى معي إلى أن تجد لك أمي وسيلة لنقل الماء، تستطيع أن ترى مركبتك من هذه النافذة، خذ راحتك.
يتوجه صفرون نحو النافذة مهرولًا ليرى مركبته الفضائية وهو يتمتم بكلام متقطع: أنا لا أفكر في الراحة الآن، إيجاد طريقة لنقل الماء إلى المركبة هو كل ما يشغل فكري حاليًا.
نظر من النافذة فرأى قطرات الماء تنزل من السماء: إنه الماء، يا فرحكم يا سعدكم الماء في كل مكان عندكم.
خاطبته إحداهن وهي تقول: أخفض صوتك، أخواتي القطرات لا تزلن نائمات.
تعجب صفرون من كلامها، وسألها: من أنت؟
تجيب القطرة: أنا اسمي قطرة بنت سحابة، وهؤلاء أخواتي الصغيرات؛ أنا وأخواتي القطرات الكبيرات نجر القطرات الصغيرات معنا حيث تجرنا أمنا السحابة جميعًا إلى أن ننزل على الأرض في شكل أمطار ونملأ البحار والوديان والأنهار فتعم الفائدة كل الأقطار.
بعد مرور وقت قليل نزلت أم صفوان من الطابق العلوي وهي تحمل في يدها خرطوم المياه الخاص بسقي الزهور التي فوق سطح المنزل. نادت على صفوان ليخرج من الغرفة ويحضر معه صفرون.
لما حضرا أعطتهما الخرطوم وقالت لهما: اسبقاني إلى الحديقة وانتظراني حتى آتي لمساعدتكما في نقل الماء.
ذهبا معًا إلى الحديقة ثم أخذ صفوان خرطوم المياه ووضعه في الصنبور دون أن ينتظر حضور أمه، وطلب من صفرون جر الخرطوم إلى أعلى الشجرة ووضعه حيث يوجد خزان الماء الذي يريد ملئه داخل مركبته الفضائية.
فتح الصنبور وبدأ الماء يتدفق عبر الخرطوم على طول المسافة بين الصنبور والمركبة، إلى أن امتلأ خزانها عن آخره.
عبَّرا عن شعورهما بالسرور بأصوات عالية سمعها كل من في الحديقة.
نزل صفرون من أعلى الشجرة ليعيد خرطوم المياه لصديقه صفوان، فرآه زوار الحديقة وجروا وراءه ليقبضوا عليه وهم يصرخون بأصوات عالية: هذا المخلوق الغريب سرق ماء حديقتنا، إنه لص، أمسكوا به قبل أن يهرب.
خاف صفرون وفرَّ مختبئًا بين الأشجار، فتبعه أحدهم وهو يصرخ ويشير بإصبع يده إلى الجهة الأخرى من الحديقة طالبًا من أشخاص آخرين أن يمسكوا به.
يجري وراءهم صفوان بنفس لاهث، طالبًا منهم أن يتركوه وشأنه: إنه معي، ابتعدوا عنه، لا تضربوه أرجوكم.
صعد صفرون إلى أعلى الشجرة حيث مركبته الفضائية.
لحق به صفوان إلى أعلى الشجرة ليحميه منهم ثم دخل المركبة ليطمئن عليه.
حلَّق صفرون بالمركبة فرحًا وهو يرفع شارة النصر ويغمره الشعور بالفخر لأنه وجد الماء، وسيعود به إلى بيته وعائلته في الفضاء.
لم ينتبه أن صفوان معه على متن المركبة، ولما رآه عرض عليه أن يأخذه معه للعيش في الفضاء حتى يعلم قيمة الماء ويتعلم الحفاظ عليه.
أدرك صفوان أن المركبة تحلق في السماء وهو لم ينزل منها، فبدأ بالصراخ بصوت عالٍ: توقف يا صفرون، أعد المركبة إلى الأرض، أريد أن أنزل، أنا لا أريد الذهاب إلى الفضاء، أنا لا أستطيع العيش في مكان ليس فيه ماء. أمي أمي، أنقذيني يا أمي، صفرون سيأخذني معه إلى الفضاء، لقد علمت قيمة الماء ولن أبذر فيه مرة أخرى.
سمعت أم صفوان صراخ ابنها، فدخلت غرفة نومه لتوقظه من حلمه قائلة: انهض يا صفوان، أنت تحلم يا بني، أنت لم تذهب إلى أي فضاء، ما زلت على كوكب الأرض.
لا تخف يا صغيري أنا معك، ولن أترك أحدًا يأخذك معه إلى أي مكان.
أدرك صفوان أنه مجرد حلم، فعانقها بقوة وقال: أعدك ألا أملأ حوض المياه في أثناء الاستحمام مرة أخرى، وألا أترك خرطوم المياه مفتوحًا في الحديقة، وأعدك أيضًا أنني سأغلق صنبور الماء في أثناء تنظيف أسناني بالفرشاة والمعجون، ولن أبذر في الماء ثانية يا أمي؛ هذا وعد.
فرحت أم صفوان بوعده، وضمَّته إلى صدرها معتبرة الحلم الذي رآه في منامه درسًا من دروس الحياة التي لا تُنسى.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.