رحلة إلى بلاد النخيل وقصور (التابية) والمستحاثات ج2

هي رحلة إلى جنوب بلاد المغرب الشرقي، إلى هذه الجهة التي لها مميزاتها من الناحية التضاريسية والنباتية، والغالب فيها هو النخيل، فهي منطقة الواحات بامتياز، ويمكنك قراءة الجزء الأول من هنا.

 متحف المستحاثات

في اليوم الثالث من رحلتنا هذه، ركبنا سيارة الكراء إلى متحف المستحاثات الخاص، الذي ورد عنه الكلام من قبل، يوجد ما بين (أرفود) و(الريصاني)، هو أقرب إلى هذه الأخيرة، هو منشأة سياحية، بمتحفها ذاك، وبمقهاها الـمُعدة كراسيه في الهواء الطلق، وبملعبها المخطط للعب الكرة، في بوابتها، وساحتها، هياكل ديناصورات منسوخة.

المتحف بقسمين -وفي هذا كما نرى نشاط تجاري محض- قسم للعلم بالمستحاثات، وقسم للتجارة بهذه، وبأشكال مقلدة من الأصلية، تجولنا بين مستحاثات الحيوانات المنقرضة، وهي متنوعة، فقد عادت بنا في الأزمنة الجيولوجية القديمة، أفضت بنا عبر باب جانبي إلى المتجر، اقتنينا منه عقدين إحاثيين، في خيط واحدة منهما مستحاثة من سن قرش، وفي خيط الأخرى قوقعة مصقولة، ثم خرجنا.

متحف المستحاثات بالمغرب

لم يكن ما شاهدته جديدًا عليَّ، فما يعثر عليه من هياكل الحيوانات المنقرضة، تُعطيه أهمية بمطالعة كتب عنها، وما تُعرف به منطقة أرفود عالميًا هو أنها غنية بتلك العظام المتحجرة، وهي محط التنقيب والبحث عن حيوان الديناصور، للوصول إلى معرفة سبب انقراضه، وقد قلنا في أولى فقرات الرحلة إن منطقة الجنوب الشرقي لها بنية رسوبية، فهي غنية بهذه المستحاثات الذي ساعد في العثور عليها هو أنها ذات طبقة سطحية جافة، وتساعد علماء المستحثات في العمل فيها بالمالج والفرشاة، تنقيبًا عنها.

مدار النخيل السياحي

رجعنا في الطريق نفسه طبعًا، ولم ننعطف إلى شمالنا للعودة إلى الفندق، وإنما تركنا السيارة مستمرة بنا، وقد نكون قد قرأنا في لوحة أن في ذلك الاتجاه: (مدار سياحي)، أول ما يُفكر فيه هو أن فيه مدنًا أو قرى سياحية، فما صادفناه لا يعني هذا، فهو ممر أسفلتي يسافر بك وسط واحات من النخيل.

تفاجأت بامتداد جذوع النخل في كل مكان، حتى خُيل إليَّ ألا نهاية له، تتوسطها قصور، كنت قد سألت تاجر دكان عن اتجاه الطريق، قال لي إنني إذا تابعت السفر فيها، ستعود بي إلى (الريصاني)، لذلك سُميت (المدار السياحي)، يأخذك في سياحة بين نخيل جنوب المغرب الشرقي، وقال لي إن هناك قصرًا غير بعيد عنه، كان يسكن في بعض بيوته اليهود، ولا يزال البئر الذي كانوا يستقون منه، ومكان عبادتهم

مدار النخيل السياحي بالمغرب

وحين دخلنا إلى داخل القصر، من بابه الرئيس الوحيد، وخطونا بضع خطوات، رأينا امرأة -لما رأتنا- تلثمت بطرف حيكها أسود اللون، ولم تترك إلا عينًا واحدة تنظر بها، كانت جالسة على عتبة دارها، هي حشمة مطبوعة بها نساء تلك البلاد، لم نستمر للعتمة الضاربة في أزقة المسقوف أجزاء منها ربما بقطع من جذوع النخيل، وعدنا لنتابع طريقنا، في انعطافة منه ضريح (المولى علي الشريف)، مؤسس الدولة العلوية الشريفة، أمامه ساحة ومتاجر.

إلى مدينة (الجُرف)

سألت أحد عمال الفندق ما إذا كانت هناك مدن أخرى من الجنوب الشرقي غير بعيدة، نضيفها محطة من رحلتنا هذه، فنبهني إلى خريطة كبيرة معلقة في مدخل الفندق، مرسومة باليد، تبين مدنًا، وأمكنة، وقال إن هناك مدينة (الجرف) ذات عمارة، وعدد متوسط من السكان، ولا يزال فيها (ملاح) اليهود مهجور.

وتوجد هذه المدينة إلى الشرق من (أرفود) بمسافة عشرين كيلومترًا تقريبًا، شجعنا الوقت القليل لقطع هذه على الانطلاق إليها، على طول مسلكنا أودية جافة، وعدد من القصور، وبناءات حديثة، ومحطة التزود بالوقود مهجورة، وفي يمين اقترابنا من المدينة، حواجز مبنية لكبح زحف الرمال، بتقنية مكثفة عن تلك التي شاهدناها في طريق (مرزوگة).

مدينة الجرف بالمغرب

استمر بنا ذلك الطريق إلى شارع المدينة الرئيس، لم نحد عنه لا إلى يميننا ولا إلى شمالنا، حتى لا نتوه، في لحظة انعطفنا إلى يسارنا، توغل بنا زقاق عريض، وجدنا أنفسنا بعده في سوق للخضر والسلع، يضج بمرح أطفال يلهون بلعب اشتروها على التو، جميعهم بسحنة سمراء، لم نجد في المكان ما يستحق اهتمامنا، فخرجنا من زحمة العربات التجارية، وتابعنا تقدمنا في مركز المدينة.

كنت أنا أسأل بعض المارة عن ملاح اليهود القديم، فأرشدني أحدهم إلى أين يوجد، فنزلت واتجهت إلى باب كبير مقوس من حجارة وتراب، عبرته، فوجدت أسرًا مغربية تسكن بيوتًا من الملاح مُستصلحة، فهداني أحد إلى تلك التي لا تزال مهجورة، لا تزال بأبواب خشبية عتيقة موصدة، بأثر أداة دق حديدية منحوتة بيد تمسك بكرة.

وجهت آلة التصوير من نافذة منهارة، من بين قضبان إطارها الصدئة إلى الداخل، إلى سقوف مهدمة وأسوار لا تزال قائمة، مطلية باللون الأبيض، تدل على أن بعض يهود المغرب كانوا ميسوري الحال، ودلني ذلك الرجل على مكان عبادتهم، وقال لي إن أباه ذكر له بأنهم لم يغادروا حيهم هذا إلا في أعوام الستين من القرن الماضي.

إلى مدينة الإبل

هي مدينة (حاسي الأبيض)، جعل سفرنا إليها نسلك طريق (مرزوگة) نفسه، فهي توجد قبلها، إلى يسارنا، هي مركز بعمارة لها جمالية خاصة، نظرت إليها به، تجلى في بيوتها البسيطة والمنخفضة، وفي شوارعها وساحتها القليلة القادمين إليها للسياحة، أغلبهم أجانب، يقصدونها ببيوتهم المقطورة المجهزة، وبدراجاتهم النارية العالية والقوية، وفي توفرها على متجر ممتاز صغير واحد أو متجرين، يوفر للوافدين إليها، ولسكانها ما يحتاجون إليه في يومهم، ودكاكين للألبسة التقليدية والعصرية، ومطاعم، وفي جانب من أحد طرق مغادرتها، دراجات ذات العجلات الأربع، معروضة للكراء، للتريض بها في الأراضي الوعرة، وعلى الكثبان الرملية.

مدينة حاسي الأبيض بالمغرب

أدى بنا أحد الأزقة المحيطة به بعض البيوت الأسمنتية إلى وادٍ جاف، فيه آثار مياه موسمية، وما بعده واحة نخيل، وغير بعيد عنها زريبة قطيع من الجمال، مخصص لجولات توغلًا في جهة الشرق، حيث الرمال، رفعنا بصرنا لنرى قائد جملين يعود بسائحين أجنبين على ظهريهما، ولم يكونا بمفردهما، فقد كانت سيدة تصطحب معها كلبها الصغير الحجم، بشعر غزير، مُخالط بياضه، تتكلم معه تدليلًا، وهو يقفز إلى الأرض لما بَرَك الجمل، عاشت الإبل حتى غدت مطية للكلاب، لا أدري ما إذا كانت تسمح بذلك مروءة الجمالين.

كنا في الحين من مقصودي القائد، عرض علينا ركوب جمله في سفر قصير هناك، ابتسمنا في وجهه، وقلنا له إن قد تسنح لنا فرصة مرة أخرى، تلقينا منه مدحًا استدراجيًا، لكنه لم يجد فينا نفعًا له، فبرحنا على التو ذلك المكان الذي لا يسمع فيه إلا رغاء الإبل، ونحن عائدان، تنبسط أمامنا الطريق الخالي تقريبًا، إذ شاهدنا قطيعًا من الجمال يسير في اتجاه (حاسي الأبيض)، يسوقه ملثم راكبًا دراجة نارية، من تلك التي تؤهل في صناعتها لقيادتها على أي شكل من سطوح الأرض.

سِرُّ قصور (التابية)

كنت ومُداوم تسيير الفندق الليلي نسهر في حديث طويل إلى ما بعد منتصف الليل، يحيط بنا سكون شامل، وتنطلق نظراتي في عمق تلك الظلمة التي تغطي دنيا المنطقة، ولا يكسر هدوء ذلك الوقت إلا صوت محرك مركبة، أو دراجة نارية، أو طقطقات سلسلة دراجة ذات الدواستين، يجدُّ صاحب هذه في الإسراع بها، بطاقته البشرية، ليصل إلى مبيته.

كنت أطرح بعض الأسئلة على مُسامري، عمَّا يتعلق بالمنطقة، كان أهم معلومة أطلعني عليها تخص قصور الجنوب الشرقي، التي لا يتكلم أحد عنها إلا ويتطرق إلى ثَبات جداراتها زمنًا طويلًا، ذلك الذي نطق به عدّدته في الأقل أنا سرًا، فما هو معروف أن جدر وأسوار قصور الجنوب الشرقي بنيت بما يسمى (التابية)، وهي تربة طينية مخلوطة بالماء، تفرغ بين ألواح، وتُسوى دكًّا بما يُدعى (المركاز)، وتضبط عمودية الجدار بميزان الخيط المعروف، وقد انتهي من ذلك، فما يضمن لنا بأنه سيحافظ على وجوده قائمًا خلال أزمنة طويلة؟ إذن لا بد من امتحانه، هنا يكمن السر.

طريقة التابية لبناء المنازل في المغرب

وقد قال محادثي الليلي إن أحد البنائين القدامى حدثه بأن بعد عملية البناء تلك، يُفرغ الماء في الجزء الذي انتُهي منه، ويبقى طيلة ليلة، ولا يعود إليه البناءون إلا في الغد، فيفحصونه، إذا لم يتسرب الماء في (التابية)، فيستدلون بذلك بأنها متماسكة وصلبة، فلا تنال منها تحولات الجو.

وإذا تسرب الماء فهذا يعني أن التابية هشة، فيُهدم الحائط بالكامل، ويُعاد بناؤه، حتى لا تكون الجدر نافذة لماء الأمطار، فإذا أهملت بذلك فهي مهددة في أي وقت بالانهيار، وقد قيل إن عددها في تلك الجهة يصل إلى أكثر من ثلاثمائة قصر، وأين اتجهت تجد لها أسماء، من بينها من يكون منسوبًا إلى فلان أو أولاد فلان، وهذا يحتاج إلى بحث ميداني طويل، وعن توزيع المياه بين بساتين الواحات فإنها تتم بالتساوي، إلا أن له حكايات دامية، فقد يؤدي النزاع عليها -كما قال جليسي- حول حصص التزويد بماء الإرواء إلى إزهاق أرواح.

سوق مدينة (الريصاني)

مدينة الريصاني مركز حضري، تتبع له تجاريًا جميع القصور، والقرى، والمدن التي يقل عدد سكانها، القريبة منه، لذلك تجد تنوعًا في الحرف، وفي أنواع السلع المعروضة، فهذه دكاكين للنجارة، وهذه لبيع الألبسة الجاهزة، وهذه لمنسوجات الصوف التقليدية، وهذه للعطارة والتوابل، وهذه للبقول والخضر، وهذه للحوم البيضاء والحمراء، مسجلة على واجهتها أرقام هواتف لمن اشتهى (مدفونة) محشوة باللحم، فيطلبها.

سوق الريصاني بالمغرب

ويتجلى مركزيتها أيضًا في بيع الخضر والبقول بالجملة، وتوفرها على مكان خاص لبيع الماشية، محاط بجدر عالية، وله باب رئيس واحد، تدخله فتجد حبالًا مبسوطة على الأرض تحدد لكل كساب مجال عرضه لمجتراته، و(رحبة) لبيع الأشياء القديمة، والمستعملة.

لا أرض، ولا ناحية تفتقر إلى قديمها، مما صنعته أيدي صناعها، وتوارثت سر الحرفية فيه منذ مئات من السنين، فترى أنه لا يزال يُعرض للبيع بصفته تحفًا، ويدخل فيما يسمى بالصناعة التقليدية، فيظل يُصنع بالتقنية والشكل أنفسهما، وإن تطورت مادة الخام، اشتريت شيئين من ذلك، خنجر من تلك الخناجر التي اشتهرت بصناعتها قلعة (مگونة)، وآخر لا أدري ما إذا تم جلبه فعلًا من قومه، وهو خنجر (طَارقي)، نسبة إلى شعب (الطوارق) الملثم، سكان الصحراء، الأول مقبضه من الخشب، ونصله وغمده من المعدن، والثاني نصله من الحديد، ومزين بالنحاس الأصفر، ومنقوش بأشكال هندسية، لكن مقبضه وغمده مغشيان بالجلد، جلد من أي نَعم (مفرد أنعام)، أو حيوان، على كلٍّ هما من صناعة يد محلية، ويُعطيان فكرة إلى حد ما عن تراث مادي مُعبِّر، وقد تطلبا مني وجود هذين بحوزتي، فتح حقيبتي المدروجة، لمراقبي دخول المطار، فلم أكن قد خطوت بضع خطوات مُتقدمًا.

وكنت قد امتدت يداي إلى حقيبتي التي كان يتحرك بها -موازاة معي- سير (ماكينة) شاشة المراقبة، حتى نودي عليَّ متلقيًا تنبيهًا بأني أحمل خنجرين، أجبت بـ (نعم)، بأني أحمل خنجرين، أُمِرتُ بأن أكشف عنهما، وقد فعلت، وحدق المراقب في السلاحين الحادين، لكنه أجازني بهما لأن الحقيبة ستُشحن في صندوق الطائرة المخصص للأمتعة، فلو حملتهما معي في حقيبة اليد لصادرهما مني؛ لأن كل ما له رأس معدني حاد لا يُحمل في مقصورة الركاب، وفي ذلك سلامة للربَّانين والفتاتين اللتين تقومان بالخدمة والركاب.

وقد عُدنا إلى سكننا ببدنينا كما غادرناه بهما، في سفر من تلك الأيام الأربعة، فما الذين استنتجته؟ أول ملاحظة هي أن هناك تنمية محلية شملت تلك الجهة، وهناك يكاد استقلال ذاتي على مستوى إبراز مؤهلات المنطقة الطبيعية، والثقافية، والسياحية، أن تتمتع به، وبمدها بمؤسسسات إدارية وتعليمية عمومية، وفي جزء من ذلك الاستقلال موروث، لأن عنصر استقرار الإنسان، وتسييره لشؤونه الذاتية، كان متوافرًا وهو الماء، فلولاه لما امتدت (إمبراطورية) النخيل تلك، في تلك الأراضي الشاسعة، على طول نهر (زيز)، ومجاري موسمية، وقد خففت وسائل النقل من عزلتها، خاصة الطائرة، ففي مدة ركوب هذه الأخيرة إليها لا تتعدى ساعة، فائدة كبيرة لها.

 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة