رحلة إلى أعماق النفس البشرية

إن النفس البشرية محيط عميق، كلما غصت في أعماقها وجدت كثيرًا من الكنوز، فسبحان من خلق النفس، وجعلها آيةً من آياته، فمن يتدبر فيها، ويتأمل يتعجب من أمرها ويلوذ من تعقيداتها.

في هذه الحياة الدنيا يسعى الإنسان بحثًا عن الراحة والسعادة؛ ظنًّا منه أن هذه النعم تُشترى بالمال، وظنًّا منه أن بإمكانه الوصول إليها بطريقة مادية بحتة، وقد خاب ظنه.

أنت انعكاس لما في داخلك

يظل الإنسان يتخبط في هذه الدنيا ويضيع في متاهاتها على أمل أن يجد ما يلملم به شتات فكره، يحاول ثم يعيد المحاولة لفك شفراتها، وفي نهاية الأمر يلطم وجهه تعبيرًا عن فشله، وعدم قدرته على تحقيق مراده، ومن ثم يبدأ في لوم حظه العاثر، ولوم الظروف التي لم تكن عادلة معه؛ حتى  البيئة التي يعيش في مناكبها لم تسلم من أصابع الاتهام هذه؛ ومن بعد ذلك  يبدأ في السخط ويشتعل غضبًا وحسرة، ويعلق فشله هذا على كل ما يخطر بباله إلا نفسه.

هكذا هي طبيعة بني البشر؛ يعلقون خيباتهم دائمًا على شماعة الآخرين، متجاهلين تقصيرهم، متناسين أخطاءهم.

إن ما نعيشه من واقع، وكل ردة فعل تصدر منَّا تجاه الأحداث اليومية ليست إلا انعكاس لما تخفيه دواخلنا، وتراكمات مشاعرنا، ومعتقداتنا التي بنينا بها منهجنا، هي الحقيقة التي قالها لنا الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه «ما أسرَّ عبد من سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه».

كذلك قيل: ما تحمله دواخلنا يلون عالمنا، وما تخفيه نفوسنا أعظم مما تبدو عليه في الظاهر.

لا تكن فريسة للمشاعر السلبية

ربما خطر على بالك أيها القارئ العزيز تلك اللحظات التي كنت فيها هائمًا؛ تمر عليك ساعات طوال وأنت تقضيها في التحليل والتفكير، تتعمق أكثر لعلك تصل إلى ما يرضي ضميرك، تسعى إلى أن تجد ما يطفئ هذه النار المشتعلة داخلك، ويرتب هذه الفوضى العارمة حولك، ولكن ينتهي بك الحال وأنت مغمض العينين، شاحب الوجه، تعصر رأسك في محاولة فاشلة لأن تخفف هذا الألم الذي ألمَّ بك.

تنهض من مكانك قاصدًا فراشك الدافئ وأنت تضمر بين جنبيك نية أن تلوذ بالفرار، وتهرب بعيدًا عن واقعك المرير؛ عن طريق الخلود إلى النوم؛ تنام ساعات وساعات طويلة حتى تمضي بك السنوات وأنت كما أنت لم يتغير حالك.

المشاعر السلبية

تفيق من هذا السبات فتجد من كانوا معك في ذات الطريق قد سبقوك بمسافات بعيدة، لكنك ما زلت واقفًا في مكانك بلا حراك، كتمثال أصم كتب التاريخ له أن يبقى جامدًا كهذا، وأنت على هذه الحال المذرية تكون فريسة سهلة، ووجبة دسمة لجميع مشاعرك السلبية.

فهي كصياد خبيث ينتظر لحظة ضعف فريسته حتى ينقض عليه ويفتك به، فيوقعك دون أن تعي في بئر دامس الظلام، بئر أفكارك السوداوية، وروحك المتشربة سم اليأس حتى آخر رمق، في هذه الساعة بالذات سيظهر معدنك الأصلي، فإما أن تنال منها بكل بسالة وشجاعة، وإما أن تستسلم فتكون في دوامة سوداء لا نهاية لها من الآلام.

ثم بعد ذلك تكتشف أنك قد فقدت درعك الحصين الذي يحميك من شر هذه الويلات، فأصبحت عاريًا من كل ما يبقيك قويًّا شامخًا، فتسرع في حماية نفسك عن طريق الاختباء خلف أسوار الخوف تاركًا لها زمام أمرك، يراك الخوف بهذا الضعف فيُظهر لك ألوانًا شتى من العذاب النفسي، ويبدع في بناء حاجز صخم يمنعك من رؤية مستقبلك المشرق، وكلما حاولت أن تخطو خطوة إلى الأمام أسرع في وضع عقبة تتلوها عقبات تسد طريقك، وتجعلك حبيسًا لا أمل في الإفراج عنك، فيصبح الخوف أكبر عائق يعيقك في تحقيق رغباتك.

تكون واقفًا محتضنًا خيباتك فتلطمك الدنيا بويلاتها أكثر من ذي قبل، لكنك على الرغم من ذلك لن تجد من يرأف بحالك، فتكون علكة طرية في فم من حولك، يجردونك من كل ما يسترك فتصبح عيوبك ظاهرة للجميع، فيزرع ذلك عقدة متينة تمنعك من الانخراط في المجتمع وإظهار ما أنت قادر عليه، فتنزوي في ركن خفي، وتكتفي بذاتك فتعيش منعزلًا عن الآخرين.

تستمر بهذا الحال إلى أن يتمكن منك ذلك العدو القاتل فتدخل في حالة اكتئاب، وتكون رهينة لشياطين أفكارك السوداوية، وتصبح كالعجين يسهل تشكيله كيفما أرادوا، وتسِرُّ النجوى وتنقاد خلف خواطرك المسمومة باستسلام تام؛ ولأيًا فلأيًا تجدك تمسك بذلك السكين كما أمرت وترسلها نحو شرايين يديك لتنهي بذلك حياتك وتكون في خبر كان.

أسرار النفس البشرية

لكن مهلًا ما الذي أوصلك إلى هذا المنعطف؟

إن هذه النفس البشرية هي من أعظم ما خلقه الله عز وجل، وهي سر من أسرار الحياة التي لم يستطع أحد الوصول إلى تفاصيلها بعد، وما زالت ماهيتها غائبة عن كثيرين، وما نعلمه وندركه ما إلا قليل من كثير، تجدك أحيانًا قد وصلت إلى حالةٍ تسأل ذاتك فيها ما الذي أصابني؟

قد تشترك التربية، والظروف، والبيئة في تشكيلك فتضع مبادئك ومعتقداتك بناءً على ذلك، لكنك عندما تبلغ عمرًا يُمكِّنُك من رؤية الصورة على حقيقتها وتتعلم من مدرسة الحياة ما يمكِّنك من التفرقة بين الخطأ والصواب فتكون بذلك مسؤولًا مسؤولية مطلقة عن كل ما يصدر منك من أفعال وأقوال.

حينها لا ينفعك لوم هذا وذاك، ولن يقدمك ضر من آذوك؛ فالجميع سيمضي في طريقه غير آبهين بمصيرك وبما حلَّ بك، وستكون أنت الخاسر عندما تترك أفعالهم وأقوالهم السيئة تؤثر فيك فتجعل من قلبك التالف مكب نفايات تلقي فيها ضغينتك وتزرع فيها الكراهية والحقد وكذلك الحسد، وتضمر في نفسك مساوئ الأفعال التي سترد لك كرامتك ممن جرحك، لكن لن تستفيد؛ فالسيئة لا تمحي السيئة.

أسرار النفس البشرية

من ربَّى نفسه على الحلم وطول البال، سيجعل من شخصه عبدًا صبورًا، والصبر قوة لا يصل إلى درجاتها إلا من أفلح، لا تنظر إلى ما عند غيرك حتى لا تتسرب سموم الحسد إلى قلبك النقي وتوسخه.

وقديمًا قالوا: القناعة كنز لا يفنى، فكن قنوعًا بما عندك، وما عندك خير لك وأبقى، تفاعل مع نجاحات الآخرين فإنها لن تنقص منك شيئًا، اصرف النظر عن ترجمة تصرفات الآخرين على أنك أنت المقصود، فإنك لست محور الكون.

لماذا أقول لك هذا؟

ارجع إلى بداية كلامي "ما تحمله دواخلنا يلوِّن عالمنا" فإنك إن أضمرت سوء النيات فسيؤثر ذلك على حياتك وتكون سيئة كنواياك، لن تعيش مرتاح البال وأنت تحمل كل هذه الأحقاد، فلذلك اعمل على تطهير قلبك، حتى يكون كما يليق بك طاهرًا ونقيًّا.

النفس البشرية كلما تعمقت فيها إما تجد كنوزًا مخفية ذات قيمة ثمينة، وإما تجد معادن صدئة لا نفع منها، أيهما تريد؟

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هذا من ذوقك الرفيع ، شكرًا على مرورك الطيب 💓
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

سعدت لأنها أعجبتك💓 مرورك الأروع
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.