في الجزء الأخير من رواية (ألوان السنغال)، ننتقل مع «خديم» من إقليم سان لوي وإقليم كولاك إلى منطقة كازامانس الجنة الخضراء الواقعة في جنوب السنغال، حيث تتلاقى الطبيعة، والفن، والحكمة الشعبية، وتغتني الروح بتجربة عميقة من الاكتشاف. هنا، يكتمل تحول الفنان التائه إلى حكيم بصري يحمل رسائل الأمل والجمال، ويعود إلى داكار ليس فقط بلوحات، بل بروح جديدة.
بعد رحلة تجاوزت ستة أشهر، قطع فيها (خديم) آلاف الكيلومترات، وزار كل إقليم من أقاليم السنغال، وعايش مختلف جوانب الحياة بتفاصيلها كلها، وجمع مئات القصص والحكم الخالدة، بدأ يشعر بحنين غريب إلى داكار، نقطة البداية، لم يكن هذا الحنين نابعًا من رغبة في العودة إلى رتابة الماضي، بل من شوق عميق إلى مشاركة ما اكتشفه من جمال وحكمة.
كازامانس.. نهاية الرحلة واكتشاف الروح السنغالية
في محطته الأخيرة اتجه (خديم) إلى إقليم فلوفي، أقصى جنوب السنغال، حيث تقع منطقة كازامانس الساحرة، المعروفة بجمالها الطبيعي الخلاب، وغاباتها المطيرة، وثقافتها الغنية والمتفردة، وأشجارها العملاقة التي ترتفع نحو السماء، كانت كازامانس تتويج لرحلته، حيث تلتقي كل ألوان السنغال ونسيجها المتنوع في لوحة فنية بديعة، تتميز كازامانس بتنوعها البيئي والثقافي، وتشتهر بأشجار المانغروف والأرز، وتفرد عادات وتقاليد شعب الديولا (الجولا).
في كازامانس استضافته (لوسيا)، امرأة شابة من قبيلة ديولا، كانت فنانة ومغنية موهوبة، وصوتها الشجي يحمل نغمات الأرض الخضراء وأصداء الأجداد، حكت له لوسيا عن أهمية العائلة والترابط المجتمعي العميق الذي يميز شعبها، وكيف أن الفرح الحقيقي يكمن في مشاركته مع الآخرين، وأن الحزن يخف وطأته عندما يُحمل جماعيًا، علّمته أن الموسيقى لغة الروح التي تتجاوز كل الحدود، وهي التي توحد القلوب بغض النظر عن الاختلافات الظاهرية، وأن السعادة الحقيقية هي في العطاء غير المحدود والمشاركة الصادقة مع من حولنا. أدرك (خديم) أن «الفن ليس مجرد تعبير عن الذات الفردية، بل هو وسيلة للتواصل الإنساني العميق، ولتوحيد البشر على قيم الجمال والخير».
لوحة الكون.. تحول الروح والفهم العميق
في نهاية رحلته جلس خديم أمام المحيط الهادئ في كازامانس، وأخرج دفتره ولوحاته، لم يعد يرى لوحته البيضاء الفارغة، بل رأى لوحة الكون بأسرها أمامه، تتراقص فيها الألوان والحكم، بدأ يرسم لوحة عملاقة، كانت مزيجًا من الألوان جميعها التي رآها في أقاليم السنغال السبعة، وجميع الوجوه التي التقاها، وجميع الحكم التي تعلمها من أفواه البشر والطبيعة، كانت لوحته الجديدة ليست مجرد لوحة فنية، بل هي شهادة حية على تحول روحه، وعلى فهمه العميق للسنغال ككل موحد، وللإنسان في جوهره.
عودة إلى داكار.. فنان حكيم وملهم
عاد (خديم) إلى داكار، لكنه لم يعد ذلك الشاب الضائع الذي غادرها، عاد فنانًا مملوءًا بالإلهام، يحمل في روحه قصص أقاليم السنغال السبعة، ووجوه ناسها الطيبين، وحكمتها المتوارثة.
افتتح مرسمًا كبيرًا في قلب المدينة، لم يكن يعرض فيه لوحاته فحسب، بل كان يروي لزواره قصص رحلته، يشاركهم الحكم التي تعلمها، ويدعوهم إلى اكتشاف السنغال بعيون جديدة، وبقلب مفتوح ومتقبل، تفاعل الناس مع لوحاته وقصصه تفاعلًا لم يكن يتوقعه، كانت لوحاته تلامس أرواحهم، وتفتح عيونهم على جمال بلادهم وعمقها الخفي.
أصبح (خديم) فنانًا حكيمًا، لا يقدم إجابات جاهزة، بل يدعو الناس إلى البحث عن إجاباتهم الخاصة في رحلاتهم الخاصة، داخل أنفسهم وفي العالم حولهم، فهم أن الحياة ليست البحث عن وجهة نهائية ثابتة، بل هي رحلة مستمرة من الاكتشاف غير المتناهي، وأن الجمال الحقيقي يكمن في كل خطوة نخطوها، وفي كل روح نلتقيها، وفي كل قصة نرويها ونعيشها.
في نهاية المطاف جلس (خديم) على شرفة مرسمه، يتأمل الأفق البعيد، حين كانت ألوان الغروب الذهبية ترسم لوحة طبيعية ساحرة على سطح المحيط الأطلسي، كانت يداه لا تزالان تشعران بلمسة الطين والخشب، لكن روحه كانت خفيفة، مملوءة بالسلام، وبالألوان التي عادت لترقص في أعماقه، ألوان السنغال التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ منه
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.