قبل ظهور رائز بينيه-سيمون، كانت محاولات قياس الذكاء بدائية وتركز على القدرات الحسية، لكن في مطلع القرن العشرين، أحدث عالما النفس الفرنسيان ألفريد بينيه وتيودور سيمون ثورة حقيقية، ووضعا حجر الزاوية الذي بُني عليه علم القياس النفسي الحديث بأكمله. في هذه الدراسة، نستعرض بالتفصيل مقياس بينيه للذكاء 1911 الذي لم يكن مجرد اختبار، بل كان أداة غيَّرت مسار علم النفس التربوي إلى الأبد.
بنود رائز بينيه-سيمون «Binet-Simon Intelligence Test» ومحتواه
تعرضتُ في سلسلة من المقالات إلى تاريخ روائز الذكاء، وإلى رائز بينيه وسيمون في كثير من التفاصيل المتعلقة به. وفي هذا المقال أُكمل الحلقة الأخيرة من الحديث عن هذا الرائز.
فهو في نسخته الثالثة (1911) أكثر إتقانًا من ناحية تنظيم البنود حسب العمر العقلي، وأصبح من الممكن تحديد مستوى الذكاء بدقة أكبر. وهي النسخة التي اعتُمِدت، والنسختان السابقتان لهما صبغة تاريخية فقط، فقد استخدمهما الباحثون لمعرفة تطور الرائز. فالعلم يتقدم بتحسينات كما هو الحاصل أيضًا في اختبار الذكاء. فالإنسان بتراكم معرفته، وبخبرته، وبدراسته العميقة المتواصلة يتحسن علمه ويراجع أخطاءه.

وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم». وصححه بعضهم وضعفه آخرون. والتطور العلمي يحصل لدى الفرد نفسه كما يحصل باستفادة اللاحق من تراكم علوم من سبقه.
قال بينيه في مقال نُشر في «الحولية النفسية» سنة 1910 بعنوان «بحوث جديدة حول قيْس المستوى الفكري لدى تلاميذ المدارس»
Nouvelles recherches sur la mesure du niveau intellectuel chez les enfants d'école. Année psychologique, Année 1910, pp. 145–201: «قد وُجهت للمقياس المتري بعض الانتقادات، والتي بدت لنا صحيحة؛ ونحن أنفسنا، عند استخدامه، لاحظنا عيوبه وسعينا إلى تصحيحها». وبناءً على ذلك قدَّما تصحيحات على نسخة 1908.
قسم بينيه وسيمون البنود في هذه النسخة إلى مجموعات بحسب الأعمار، بدءًا من سن 3 سنوات إلى 10 أعوام فـ 12 عامًا ثم 15 سنة، إضافة إلى بنودٍ للكبار (فوق 15 سنة).
وفيما يلي محتوى بنود هذا الرائز مترجمة، وهي تمثل بنود رائز بينيه-سيمون حسب العمر مصحوبة بالوثيقة الأصلية الفرنسية حتى يتسنى للقارئ والناقد المقارنة بينها وبين تعريبها ليتعرف على مدى دقة الترجمة.
|
الاسم واللقب.................................................................................................. تاريخ الميلاد.................................... تاريخ الاختبار............................................. العمر بتاريخ الاختبار........................... عمر الذكاء.................................................
|
||
|
عمر 3 سنوات 1- تحديد لقب العائلة. 2- تكرار عددين. 3- تسمية الأشياء المعروضة. 4- تكرار جملة من 6 مقاطع. 5- الإشارة إلى أجزاء الجسم (الأنف، الفم، العين). عمر 4 سنوات 1- تكرار 3 أعداد. 2- تحديد جنسه ذكر أم أنثى. 3- تسمية مفتاح وسكين ونقود. 4- مقارنة سطرين. عمر 5 سنة 1- تكرار جملة من 10 مقاطع. 2- عد أربع قطع نقدية. 3- مقارنة وزنين. 4- نسخ مربع. 5- لعبة صبر. عمر 6 سنوات 1- عد 13 قطع نقدية. 2- تعريف بالاستعمال. 3- التمييز بين الصباح والمساء. 4- نسخ مُعَيَن. 5- مقارنات جمالية. عمر 7 سنوات 1- وصف لوحة. 2- عد 9 قطع نقدية منها 3 مكررة. 3- الإشارة إلى اليد اليمنى والأذن اليسرى. 4- تسمية 4 ألوان. 5- تنفيذ 3 مهام. عمر 8 سنوات 1- تكرار 5 أرقام. 2- تسمية هديتين تذكاريتين 3- العد من 20 إلى صفر. 4- تحديد نقص في أشكال. 5- تحديد تاريخ اليوم. |
|
|

العمر العقلي
اعتمدت نسختا سنتي 1908 و1911 من رائز بينيه-سيمون على إضافة مفهوم العمر العقلي «Mental Age»، وهو العمر الذي يتوافق مع الأداء العقلي للفرد مقارنةً بأنداده، وهو مفهوم محوري. فقد تفطن بينيه وسيمون من خلال تعاملهما مع مختلف الأصناف من الأطفال العاديين والأذكياء والضعفاء أن بعض الأطفال يكون أداؤهم أقل، وآخرون أعلى، وآخرون متوسطون. فانتهيا إلى استنتاج أن أغلب الأطفال من عمرٍ زمني معين قادرون على مهام معينة، ونسبة أقل لهم أداء أدنى من الغالبية، ونسبة أخرى قليلة أداؤهم أعلى. فاحتاجا إلى التفريق بين مفهومين: العمر الزمني للطفل، الذي يُحسب بالنظر إلى تاريخ ميلاده، والعمر العقلي الذي يعكس نموه الفكري، عاديًّا كان أو متأخرًا أو متقدمًا، وهذا المفهوم هو أساس قياس الذكاء العقلي في الاختبارات المبكرة.
فصمم بينيه وزميله سيمون من خلال تعاملهما السريري مع أطفال يعرفانهم اختبارات ذهنية (عقلية) متنوعة مرتبة حسب الصعوبة، تُغطي مهارات مثل الذاكرة والفهم وحل المشكلات والانتباه والقدرة اللغوية. هذه الاختبارات قُسمت إلى مستويات عمرية على أن تمثل في كل عمرٍ معين ما يُتوقع أن يستطيع الطفلُ المتوسطُ الذكاء لذلك العمر إنجازه.

ثم اختارا عينات من أعمار مختلفة لتحديد المستوى المتوسط من الأداء العقلي في كل عمر من خلال دراسة إحصائية، فتحصلا في كل عمرٍ زمني على ما يقابله من عمرٍ عقلي، بالطبع حسب أداء غالبية أطفال هذا العمر الزمني، أي نحو 75% منهم تقريبًا. فلكي يعد السؤال من سمات ذكاء طفلٍ في السادسة من عمره مثلًا، يجب أن يكون قد رسب فيه غالبية الأطفال في الخامسة من العمر، وأن ينجح فيه أكثر أطفال السابعة، وأن ينجح فيه غالبية الأطفال في السادسة. وهكذا، تُصنف قائمة الأسئلة (خمسة أسئلة في كل عمر، ما عدا عمر 4 سنوات فعدد أسئلته 4) وفقًا للأطفال متوسطي الذكاء لذلك العمر، من 3 إلى 10 سنوات فـ 12 عامًا ثم 15 عامًا، وسلسلة من خمسة أسئلة لمرحلة البلوغ.
كيفية إجراء الرائز وحساب العمر العقلي
يبدأ الفاحص بالتعرف على اسم الطفل وعمره الزمني وتسجيلهما. ويكون إلقاء الأسئلة شفويًا بين الطفل والفاحص؛ فبالطبع، ظهور الروائز المكتوبة والجماعية وبواسطة الحاسوب والإنترنت متأخر على سيمون وبينيه اللذين كانا يلتقيان بكل من أرادا اختباره. وتُعرض عليه أولًا أسئلة عمره الزمني، فإذا أجاب الطفل عنها بسهولة، ينتقل إلى أسئلة أصعب (لعمرٍ أكبر). وإذا أخفق، يعود إلى أسئلة أسهل (لعمرٍ أصغر)، ثم يُحسب العمر القاعدي (الذي أجاب فيه على جميع الأسئلة)، ثم يُضاف إليه عدد الشهور بحسب الأسئلة الصحيحة في المستويات الأعلى.
فإذا كان طفلٌ عمره الزمني 8 سنوات، وأجاب عن جميع أسئلة عمر 7 سنوات، فإن عمره القاعدي 7 سنوات. فإذا أجاب على نصف أسئلة عمر 8 سنوات ولم يُجب على أسئلة عمر 9 سنوات كلها، يُضاف إليه 6 أشهر، فيكون عمره العقلي 7 سنوات و6 أشهر. فالدرجة النهائية تعتمد على آخر عمرٍ نجح فيه الطفل في اجتياز معظم المهام، مع إضافة 2.4 شهر لكل بند إضافي نجح فيه من الأعمار الأكبر، ما عدا الإجابة عن سؤال عمر 4 سنوات، فـتحسب بـ 3 أشهر. فبنود كل عمر 5، ما عدا عمر 4 سنوات فأسئلته 4.

والهدف من هذا التطبيق هو تحديد الأطفال الذين يؤدون أقل من عمرهم الزمني والذين يحتاجون دعمًا أو تعليمًا خاصًا، والأطفال الذين يتفوقون على عمرهم الزمني يُعدون موهوبين أو متفوقين.
ويُنسَب إلى سيمون أنه يحسب الإجابة عن الأسئلة الثلاث الأولى شهرين لكل واحدٍ منها، و 3 أشهر للإجابتين المتبقيتين، وذلك بالنسبة إلى الأعمار من 3 إلى 10 عامًا ما عدا 4 سنوات، فلا يتغير الحساب بالنسبة إلى هذا العمر فهو كما ذُكر أعلاه. وتحسب الإجابة عن السؤال الواحد 5 أشهر بالنسبة لعمر 12 عامًا، و7 أشهر بالنسبة لعمر 15 عامًا و للكبار البالغين، لعل ذلك بسبب الاكتمال العقلي وضعف النمو الذهني.
توقع بينيه وسيمون تطبيق المقياس المتري، أي إجراء الرائز وحساب العمر العقلي من قِبل مهنيين متخصصين مُدربين. لذلك أظهرا اهتمامًا حقيقيًا بتوحيد القياس، فقدما تعليمات مُشروحة بوضوح عن حساب العمر العقلي، كما قدما أمثلة على الإجابات الصحيحة والخاطئة لتسهيل التصحيح والتقييم. وقد درب بينيه بنفسه المعلمين ومديري المدارس على استخدامه، خاصة في الأحياء الفقيرة في باريس.
ميزات الرائز
1- يعتمد على أداء الفرد وليس على تحصيله الدراسي.
2- يمتاز بالتنظيم الدقيق حسب الأعمار، فقد قُسم الرائز حسب الفئة العمرية، وكل فئة عمرية تحتوي على 5 بنود.
3- إمكانية تحديد العمر العقلي بوضوح.
4- تنوع البنود لتغطي مختلف الوظائف العقلية مثل الذاكرة، والانتباه، والقدرة اللغوية، والتفكير المجرد.
5- اكتفى بينيه وسيمون بتحديد النمو الفكري للأطفال من سن 3 سنوات إلى 12 سنة لأن الهدف هو التعرف على ذكاء الأطفال الذين يترددون على المدارس الابتدائية والذين يحتاجون إلى دعمٍ تعليمي. ولو كان الهدف غير ذلك لتضمن الرائز أعمارًا أكبر إلى سن اكتمال النمو، الذي يكون في نهاية سن المراهقة أو بعدها، لأن التربية والخبرة والتجربة تقوي الذكاء. وانتقلا مباشرة من سن 12 عامًا إلى سن 15 سنة بإهمال العمرين 13 و14 سنة لأنهما يأتيان بعد نهاية المرحلة الابتدائية، وهي مركز اهتمام الرائز. وأضافا سن 15 عامًا التي يكون فيها أغلب الأطفال في مرحلة المراهقة ومرحلة الاكتمال الفكري النسبي.

6- مقارنةً بمقياس عام 1908، يتضمن مقياس عام 1911 أسئلة للأفراد بعمر 15 عامًا والبالغين. هذا التحول نحو تقييم الأفراد الأكبر سنًا، وبالتالي إدخال اختبارات أكثر تعقيدًا، يُعد مؤشرًا ملموسًا على تغييرٍ في الهدف. لم يعد الأمر يقتصر على اكتشاف مستويات الضعف وتوصيفها، بل أصبح يشمل تقييم الذكاء لدى الأفراد العاديين. وأصبح الرائز يطمح إلى أكثر من الهدف الأول، وغدا يهتم بقياس الذكاء، وكأنه يتوقع ما سيحصل، وهو أن يكون الرائز منطلقًا جديدًا بالنسبة لعلم النفس لبناء روائز الذكاء.
7- إن بنود اختبارات رائز بينيه-سيمون تقيس الوظائف العقلية العليا، وليس الأنشطة الحسية كما كان في الروائز السابقة.
8- يظهر تدرج في صعوبة البنود من سن إلى أخرى. فعلى سبيل المثال، طُرِحت مهمة تعريف الكلمات المحسوسة على الأطفال في سن السادسة، والذين نتوقع منهم تعريفًا قائمًا على الاستعمال، ثم في سن التاسعة نتوقع لنفس الكلمات الملموسة تعريفات «أكبر من الاستعمال»، وبالتالي أكثر تجريدًا. وأخيرًا، لا تظهر مهمة تعريف الكلمات المجردة في المقياس إلا في سن الثانية عشرة.
9- اعتبر كثير من علماء النفس أن اختبارات رائز بينيه-سيمون كانت في معظمها لغوية، وهو ما جعل كثيرًا من واضعي روائز الذكاء يُنوعون في بنود روائزهم بعده.
نقد اختبار بينيه سيمون
1- لو كان لكل عمرٍ عقلي 6 أسئلة مثلًا، لكانت كل إجابة تُحسب بشهرين، ويكون الحساب أدق.
2- لو افترضنا أن طفلًا عمره الزمني 5 سنوات، وأجاب عن سؤال عمر 6 سنوات وسؤال عمر 7 سنوات، لكان من الأجدى أن تُسند للإجابة عن سؤال عمر 7 سنوات قيمة أكبر.
3- أيمكن أن نعثر على أطفال لا يجيبون عن غالبية أسئلة عمرهم الزمني، ولكن يجيبون عن كل أسئلة عمرٍ أكبر من عمرهم الزمني؟ إذا كانت الإجابة عن هذا السؤال «نعم»، أي إمكانية وجود أطفالٍ كذلك، فهذا سيدفع إلى التشكيك في مفهوم العمر العقلي، أو على الأقل في نسبيته، أو يدفع إلى الشك في دقة توزيع الأسئلة على مختلف الأعمار.
4- هل خمسة أسئلة كافية لتحديد ذكاء الطفل ودرجة نموه العقلي؟
ككل عمل بشري متقَنٍ ورائد، كان لرائز بينيه-سيمون نقاط قوة كثيرة ونقاط ضعف، وطُوّر على مر السنين. وقد وقع استخدام هذا الرائز لبضع سنوات فقط، وفي الغرض الذي بُني من أجله، وهو الكشف عن التلاميذ الأقل قدرة ذهنيًا لتوجيههم إلى مدارس التأهيل. وهو عمر قصير جدًّا مقارنةً بروائز الذكاء التي جاءت بعده وبُنيت على منواله. وعلى الرغم من أن رائز بينيه-سيمون لا يُستخدم حاليًا ولم يطُل عمره كسائر الروائز التي أتت بعده، فقد كان تأثيره كبيرًا وتواصَل حتى الآن عبر روائز مطورة منه.
إنه يمثل الأب الروحي لكل اختبارات الذكاء الحديثة، والفضل يعود إليه في نقل قياس القدرات العقلية من مجرد اهتمامات فلسفية إلى مجال علمي تطبيقي له قواعده وأدواته.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.