هذا هو الجزء السادس قبل الأخير من مقال أدبي فلسفي يتحدث عن الحياة وكيف يراها الإنسان وتتحكم به وسط صعوبات قاسية، ونبدا من حيث انتهينا في الجزء السابق.
ما يتميز به بنو البشر
يكفيك أن تلاحظ أفراد مجتمعك كلًّا على حدة أو جماعة، وأقصد بالملاحظة هنا تلك التي ترى بعين العقل، لكل حركة أو سكون أي شخص كان، بل يجب ألا يُستهان بأية ردود فعل لفظي كان أو حركي أو هما معًا أو شيء من هذا القبيل؛ لأنها تُعد تعبيرًا عن جواب ساكن، أو ربما هي طرح لسؤال مدوٍّ.
فإما قد تنتج عنه صاعقة، صدمة نفسية، وإما ثورة خطابية صاخبة، وإما حالة هستيرية مقلقة، وغيرها من الآثار الجانبية؛ لأن بني البشر -كباقي الكائنات الحية على اختلاف أصنافها وأشكالها- بالفطرة غالبًا ما يستشعرون أحوالهم معتمدين ليس فقط على حواسهم الخمس المعروفة، بل إنهم يتفوقون على باقي المخلوقات بالحكمة أحيانًا وبالحيلة في أحيان أخرى.
وقد يتفاعلون مع أية حالة كانت حسب مزاجهم إن كان صحوًا، وقد ينقادون عفويًّا إلى ما يجهلون، أو قد يتأثرون بصدى مفاجأة ما، فنجدهم لا يفقهون شيئًا حينها، لكن كانوا يمتلكون تلك الملكة أو تلك القدرة التي تحضُّ على ضبط النفس ونسج خيال بارع لمسايرة اللحظة، ولكي يجاري ما يطلبه الظرف والحال كذلك، كحل مفترض في الأقل، أو بالأحرى قد يتمكن بعد مراجعة مرجحة للشأن المطروح، في انتظار ما يمكن أن تؤول إليه النتيجة المتوخاة أو عكسها، وقد يُدهش لما سيقع.
وعليه، فالإنسان بتركيبته المعقدة والدقيقة أحوج لذاك الأمل الذي يزرع فيه روحًا جديدة، منبعثة من وحي لا يعلم هو نفسه من أين يأتيه، لكن وثوقه بفراسته كثيرًا ما يصيب هدفه، في حين قلما قد يخفق، ذاك ما قد لا يفهم سره كذلك.
فقد يستمر الجدل فيما بين السائل والمجيب إلى حدود انسحاب أحدهما، حين يرفع الراية البيضاء ولسان حاله لا يعبر عما هو عليه، وقد تجده يتستر على بعضٍ مما يؤرقه، محاولًا تمويه المخاطب لغاية في نفسه، خصوصًا إن كان المتكلم غير قادر على تبليغ رأيه للآخر، فيبقى هذا التفاعل البشري هنا سببًا لمناقشة موضوع ما أو شأن ما، أو ربما تفسيرًا جانبيًّا لما قد يحدث عند كل محادثة أو نقاش أو مناظرة، أو قد يكون فقط نوعًا من التقييم الذاتي، أو تحليل لمجمل ما يُلاحظ، كتأثير سمعي بصري على كل من تابع من كثب أحداث تلك الطارئة...
معرفة أسرار النفس
وهكذا، فقد يكون هذا السيناريو ما إلا محاولة ارتجالية من نسج خيال كاتب أو ملاحظ، أو قد يكون فعلًا بمنزلة نقل أو ترجمة لواقع أو حدث ما كذلك.
والأمثلة هنا جمَّة في هذا المضمار؛ لأن كل ما جاءنا به علم النفس البشري على الأخص إلى يومنا هذا، ما زال قاصرًا على كشف جلِّ الحالات النفسية وتجليات اضطراباتها، ما قد يترك في أعماق تفكيرنا وقعًا بالغًا، مهما كان ثاقبًا، ليس إلا بقع ضوء صغيرة في منطقة مظلمة بفضاء دماغ كل المخلوقات الحية، ومن بينها الإنسان طبعًا.
فما أحوجنا إلى معرفة أنفسنا بأنفسنا مرحلة أولى، كالبحث المعمق عن بعض أسرار قدراتنا من عدمها، وكذلك محاولة فهم ما يصدر عنا من إبداع في عالم الخيال والمتخيل، وتقمص لحالات ولشخصيات مبتكرة، وهي على شكل صوت وحركة وإبداع مدهش لانفعالات إرادية وغيرها، الشيء الذي قد يصنف هذا الكائن العجيب بأنه ممثل بارع أو مشخص نادر، في شتى أنواع الفرجة المباشرة أو الافتراضية كذلك، على سبيل المثال لا الحصر...
"لا مستقبل دون ذاكرة" هو شعار جميل وعميق في دلالته الوجودية، ويدل بالضرورة على أنه يوجد لكل قمة قاعدة، وأنه لا قيمة لزمن لم يسجله التاريخ لنا، الشيء الذي قد يدفعنا للتخيل أو لطرح أسئلة لا حصر لها، من أجل محاولة تقصي بعض الحقائق الضائعة، أو غير المفهومة، أو بالأحرى خلق بعض المقترحات أو الاستنتاجات المرجحة، لكي نتمكن في الأخير من أن نجزم بوجوب حدث ما مثلًا، أو غيره من التكهنات المنتظرة، على ضوء ما قد نلاحظ من بواعث أو بصمات لشيء ما أو لظرف ما أو لحال ما لم يقع بعد، أو على عكس ذلك قد نقر بعدم وقوع أية طارئة حينها بكل موضوعية صرفة...
أنت ما بين الحقيقة والخيال
في الحقيقة، إنه لإحساس غريب أن تترك لخيالك فسحة التخمين أو التأمل، في فضاءات وعوالم بعيدة جدًّا عن عالمك المَعِيش، بحيث يسافر التفكير بك إلى حيث لا تدري، وقد يعود بك إلى حنين طفولتك بكل ما تحمل من دلالات لديك، وقد يرحل بك إلى الأمام فتجد نفسك تلامس سنِّ الشيخوخة أو سنِّ الحكمة.
والعجيب أن هذا السفر الافتراضي يبدو وكأنه يسابق الزمن الواقعي الذي نتعايش بداخله، فتارةً يتوارى وأخرى يبرز، ربما حسبما قد تكون عليه نفسيتنا حينها، في حين ندرك زمننا الآني عند انتباهنا له أحيانًا، وقد يُحتسب على سجل أعمارنا دون علم منا كذلك، على الرغم من أننا نتقاسم كل أنواع الشخصيات العاقلة والمختلفة أحيانًا عنَّا بصفة لا يقابلها شك أو ريب؛ لأنها لا تعصي مبادئ أو خصوصية "الأنا" بداخلنا.
فلا يمكن أن ينكر أحدنا أنه منذ صباه وهو يلعب عن وعي أم لا أدوارًا رئيسية أو ثانوية وغيرها، وهي تُعد فلا تُحصى، مهما كانت نياتنا واقعية طوعًا أم إجبارًا، وأحيانًا قد يستهوينا الحال إلى درجة لا يمكننا أن نفارق تقمصنا ذاك إلا حسب الضرورة، ولو كان بمقابل مغرٍ...
فنادرًا ما نتساءل: هل كان علينا أن نسلك طرقًا غير التي اتخذناها؟ أو هل كان لا بد أن نحيا التجربة نفسها التي مررنا بها من قبل؟
أما كان من الممكن أن نغير المسار بأيدينا، أم فقط نحن من لم نحاول حتى؟ أم أنه مهما فعلنا كان قدرنا مسطَّرًا قبل مجيئنا إلى حيث نحن، أم إنها مسألة وقت وكفى؟
خيارات الحياة والزمن
ثم توجد مسألة المكان الذي يفرض نفسه على الحال، فنجد أرواحنا مقيدة بقوانين خارج فضاء إدراكنا، لهذا غالبًا ما نستسلم لمجابهة مصيرنا دون البحث عن أجوبة مستعصية لا على الفهم فقط، بل حتى على وجود ردود أفعال مناسبة لها، فلا نحن نقرّ بقصور بصيرتنا، ولا نسمح لأنفسنا بأن نخوض تجربة دون دليل ولا قرار ثابت.
ومهما كان الحال، فهي خيارات متشابهة، فقط إنها متباعدة في الزمن والمكان. ويا له من إحساس ونحن نتنفس الصعداء على حال ما، وقد أخذ الأرق منا مساحة أكثر مما نتحمل، بل هو ضياع ما بين واقع معين وأحلام ربما بعيدة المنال. ومع ذلك، ما إن تمر تلك المدة الزمنية حتى تجدنا قد تخطينا ما كنا نعتقد حينها أنه قد انتهى أمرنا، أو أنه ليس لموقفنا مخرج سليم، وهكذا...
وبعد هذه اللحظات العسيرة، قد نستخلص منها أننا قسمنا أو جزَّأنا ما لا يتجزأ من حياتنا، ألا وهو عامل الزمن، لربما كي لا نتوه ما بين زمن الكون غير المحدود، وتلك المدة الوجيزة جدًّا التي ننسبها لعدد سنوات أعمارنا، وما تحملته أجسامنا وأرواحنا من مختلف أصناف المعاناة والمحن، من بين كل ما يتلقاه الفرد منا من أوقات جميلة لروعتها، في سبيل البقاء حيًّا، ولو مدة قصيرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بشاكلة تصرفاتنا، بكل عناية أكيدة وأمل في غدٍ أفضل كذلك...
رائع صديقي احسنت النشر
لك مني كل الشكر على مدحك و دمت في المقدمة مع تحياتي الخاصة لك 👍
وأمل في غدٍ افضل كذلك
نعم بنا امل فى غدٍ افضل وسلام
يعم الجميع وحلم وردى لواقع اجمل
تحياتى وتقديرى لك ي أمير الكلمات 🙏🌷
يسعدني ان محاولتي هاته نالت ردودا ايجابية منك و شكرا على مدحك . اتمنى لك كل السعادة و التوفيق في حياتك...تحياتي 🧡
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.