أكيد أن لكل شخص نظرته إلى الأشياء، أكانت مكتسبة عن تجربة وتنقيب، أو أنه امتلكها بفضل تكوين وتدريب، وقد تأتيه عن طريق الصدفة كذلك.
وعلى الرغم من ذلك؛ غالبًا ما تجد تضاربًا في الآراء، مع أنه قد يتمسك الكل بنظريته أو برأيه على أساس أنه ذو حق، ودون منازع، أو أنه صاحب معرفة أكثر من ندِّه، ولو كان الموضوع عينه محط خلاف، ما يشغل بداية شرارة الاختلاف، وقد تدوم المعركة لأجيال متعاقبة. في حين يلغي كلٌّ بلغوه، وقليل منهم قد ينعم بحسن الجوار أو بملكة الحكمة والتريث، وبحسن الإصغاء إلى الآخر.
هل الحياة تُعاد من جديد؟
وهكذا، فإن حسن التعايش فيما بيننا، قطعًا سيكون مفتاح فرج لأية إشكالية أو معضلة، كيفما كان نوعها، ما يؤدي إلى انفراج الكرب وانقشاع الرؤى، ويتبدد سوء الظن بالآخر، مع الاحتفاظ بروح مرنة وحسن نية المتبني، ما يجعل من حدث عابر فرصة سانحة لأي كان، بأن يدلي بدلوه وهو يتمتع بسمة رخاء وطمأنينة، بصفته فردًا فعالًا في مجتمعه، وعضوًا مسؤولًا وسط أسرته، وعنصرًا مستقلًا بأفكاره وأفعاله، دون أن يمس الآخر بأية وسيلة تؤذيه عن قرب أو من بعد، أو قد يتعدى حدود شأنه جادًا أو مداعبًا حتى.
أحيانًا، قد يبدو لنا وكأننا نعيش حياتنا على إيقاع العد العكسي، لكن ليس بداية من حاضرنا إلى آخر رمق لنا بها، بل أحسبنا نرى أنفسنا، وكذا آخرين، وكأننا نعيش أيامنا ونحياها مرة أخرى، كما لو أننا نعيد الكرة، أي منذ الآن إلى ما فات من أيام وقرون.
وكأننا نعود إلى ما كنا عليه بصفتنا مخلوقات حية عاقلة، مع كل ما يحيط بنا من تضاريس ومحيطات وموجودات أخرى، هي كذلك تتراجع إلى وضعها الأول وشكلها الأصلي، والكل يتحول إلى ما كان عليه.
هكذا أرى حال الوجود، حينما أجدني أتأمل بعمق في ملكوت هذا الكون الهائل، وكأنه يمتد إلى ما لا نهاية. على الرغم من أنه ينتابني إحساس بأن هذه النهاية ليست في حقيقة الأمر إلا بداية أخرى لمسار حياة بديلة لمخلوقات أخرى، ربما ذات أشكال وأحجام لا شبيه لها في عالمنا هذا.
الرابط بين الماضي والمستقبل
وهنا، كذلك، لا نسمح بأن يقال إنه ضرب من صور الخيال العلمي أو ما شابه؛ لأن ثلة من الباحثين قد كرَّسوا وقتًا غير هين لكي يتوصلوا إلى هذا الافتراض أو هذا الاستنتاج الفريد من نوعه، والذي يقول ويقر بأن حياة الإنسان هنا باتت غير مستقرة أكثر من ذي قبل، وأنه لا بد أن يُعاد النظر فيما اعتاده هذا المخلوق من أسلوب حياة وقواعد وأنظمة لحياته السالفة.
وذلك بأن يعود إلى أسلوب التأمل العميق في وجدانه، وكيفية تفاعله مع محيطه إيجابيًا قدر المستطاع، ثم قد يحاول الوصول لنمط سلس لمتابعة ما نوى أو قرر القيام به حسب ظروف حياته اليومية، مع احترام جدول برنامجه المسطر، لتحقيق غاياته المنشودة بكل حب وامتنان للحياة.
فما نسميه نحن بالماضي، هو في واقع الحال كان مستقبلًا لغيرنا، أما ما ننتظره آتٍ، فهو ماضٍ سحيق للاحقينا. ويبقى السؤال العالق: ما محل حاضرنا في الوجود؟ في نظري، ما إلا تلك المسافة الزمنية الرابطة بين ماضينا، أي مستقبلٍ آخر، وهذا الأخير، هو الزمن الذي منه سنأتي. وهكذا، فمثال حال اتجاه مدار عقارب الساعة، لهو عكس دوران الأرض حول الشمس.
وبهذا نتمكن من تحقيق غاياتنا في معرفة الزمن عمومًا، أي هو ذاك الوقت الذي بواسطته نستطيع أن نحافظ على مواقيتنا عند كل مأرب أو موعد أو أي زمن معين؛ لأنه بسبب هذا التقاطع الزمني، يستطيع أي شخص أن يحظى باللحظة الآنية ثم ليعبر إلى حال سبيله.
بما في ذلك من مسؤولية اتجاه كل من احترم هذا التعاقب الأزلي من وإلى ما لا نهاية، فقط لأنه مسار مغلق. أما إن كان غير ذلك، فكان لا بد أن ينتهي، ولو بعدد لا تُحصى مسافته بالأرقام، لكنها تُحد من ناحية المساحة الموجودة كفضاء؛ لأن العدم هنا لا محل له في هذه المعادلة الوجودية.
والأمر يستمر دون جزم أو عكسه عند مدخل باب المنطق.
الجانب المظلم من الحياة
وهكذا نحاول أن نجعل من قدرنا إما فرصة ثمينة لكي نتمتع بما صادفنا على دربنا، فنتفاعل مع كل مظاهر الحياة، بما في ذلك مجموع أحوالنا الشخصية، وكذا محيطنا الاجتماعي الذي بدوره يؤثر فينا بطريقة مباشرة وغيرها، فلا نعمد في تقييمنا الذاتي أو المعنوي إلا على ما اكتسبناه من كمٍ وكيفٍ معًا، منذ نعومة أظافرنا إلى آخر رمق في حياة أيٍّ كان؛ لأن الكل هنا يسعى باحثًا عن أية وسيلة ناجعة للبقاء حيًّا مهما كلفه الأمر، لكن العاقل لا ينسى بأن عمره محدود ولو طال أمده.
فالموت، مثلًا، ذاك الحدث الرهيب عند بعض الأحياء، لهو نهاية طبيعية لمسيرة الحياة عند الآخرين، كوجه آخر لها. وكما أنها تُعد بمنزلة صاعقة قوية لدى بعض البسطاء العاميين. هكذا سيكون هذا الجانب المظلم من الحياة نهاية لمقدمة سيرة ذات بريئة، أو محطة لنفوسٍ مسافرة عبر الذكرى إلى زمن لاحق، فتسكن متوغلةً بين ذكريات عقول حاضرة في زمن ومكان ما.
تمر الأيام الأرضية ما بين شروق الشمس عليها وغروبها، وأنا جامد هنا كصخرة جليد، أحس بما يجري بداخلي وبما يدب من حولي، فأذوب نهارًا وأتآكل ليلًا، دون أن أدري إلى أين تسبح بنا مركبة الأرض هذه، أو بالأحرى إلى متى ستظل بنا راحلة.
مع أنه غالبًا ما يجد الفرد نفسه مندفعًا إلى قنص الفرصة حيثما حلت، جاعلًا منها قاعدة أحلامه ونصب عينيه، ليبني على صرحها ما هو بحاجة إليه بصفة عامة. لكنه، يوجد من البشر من يشعر بفراغ روحي مدى الحياة، فغالبًا ما تكون حياته ضالة، ويوجد آخرون يشتكون من فراغٍ مزمن، وهم أسوأ حال.
وعليه، فقد يستمر الإنسان الباحث عن ماهية الأشياء إلى ما لا نهاية كذلك، في سبيل أن يعي ما يشغل باله منذ أن انتبه وأدرك أنه مخلوق، وليس خالقًا، فحاول معرفة من يكون خالقه في أول الأمر، لكن دون جدوى، ثم صار يبحث عما إن كان بمقدوره تمديد متوسط عمره على غرار بعض المخلوقات المعمّرة، لكي ينتصر على نفسه ويؤمن بأزلية إقامته على كوكبه هذا.
لكنه أدرك أن عليه أن يترك لخلفه كل ما توصل إليه من معلومات ومعطيات ومفاهيم، على اختلاف مصادرها وأسسها وتنوع خصوصيتها، وذلك لكي يجعل من بحوثه وتحاليله المنطقية قاعدة، لجل محاولة فعلية أو تجريبية لمن سيخلفه، ليتمم مشروعاته الخاصة والعامة، كما أخذ هو ممن سبقوه.
وهكذا قد يترك إرثًا قيمًا لخلفه كزاد أو كنز لا يقاس بثمن، لكونه إرثًا متنوع الكيف وغزير الكم، بحيث منه ما هو نظري، وكثيرٌ منه مادي، لعله يستطيع أن يبلور تلك النتائج القيمة إلى أعمال ذات وقعٍ مهم في مجالات عدة، ولكي يتمكن من تحسين سبل العيش، وكذا تسهيل ظروف العباد، بعد ما ضحى من أجله معاصروه بالغالي والنفيس، كمن أُعدم من جراء إدلائه برأيه الخاص، وآخرون عُذبوا دفاعًا عما آمنوا به، ومنهم من هاجر خارج وطنه، ومنهم من عاش باسمٍ مستعار ثمنًا لبقائه حيًّا، وكذا منهم من سُلِب من كل ما يملك؛ لأنه أعلن اختياره لونًا جديدًا من علوم أو فلسفة ما، غير ما كان يسود حينها.
معرفة أسباب الوجود
وهكذا عانى علماء ومخترعون ومبدعون من شتى أنواع الاضطهاد والتعسف، من أجل أن يسلِّموا لنا مشعل نور العلم والمعرفة. لا لشيء، إلا لكي ننعم نحن حفدتهم بثمار محاصيلهم التي كانت وما زالت تبهرنا من حين لآخر بما توصلوا إليه حينها، على الرغم من صعوبة الأجواء وقلة المواد والموارد.
لكن بقوة التحدي ولهفة تحصيل ما كان يشبع فضولهم، قد قدموا لنا كنزًا لا يضاهى في أطباق من ذهب، لا يراه إلا أتباعهم، وما على بعض الحفدة البررة والأوفياء للعلم إلا أن يتمكنوا من حفظ وتطوير ما ترك لهم من زاد نظري أو تجريبي أو فلسفي وغيره من العلوم، في سبيل تقنين وتحسين ظروف العمل وأدواته. وبذلك الحصول على نتائج جلها أبهرت عامة الناس.
وأما علماؤهم، فقد ازداد عطشهم للاطلاع على ما ورثوا، وكما اجتهدوا لكسب أكبر قدر ممكن من أسرار المجهول، مع المثابرة والإقدام على العمل الجاد والمستمر، من أجل بلوغ الهدف المنشود، ألا وهو تفسير وتحليل كل ألغاز الوجود.
ومن بينها، تحقيق آمال أسلافهم الأسمى، ألا وهو معرفة أسباب الوجود، وكذا تمكين العنصر البشري من التعمير لزمن غير محدود، وقدرته على تسخير بعض الظواهر الطبيعية وتطويعها للمصلحته دون أن تسيطر عليه تلك الأنانية الفطرية كما عُهِد.
وهكذا بدأت المغامرة لدى بعض الخبراء على مر الزمن، حاملين على عاتقهم وزر العلم بكل ما يحمل من معنى؛ لأنهم جنود الخفاء ضد ما يسمى بالجهل، ولأنهم كالمحاربين، تجدهم لا يعرفون راحة البال إلا إذا توصلوا إلى لمس حقيقة الأشياء من كثب، أو أنهم اخترعوا طرقًا أو سُبُلًا لجعل العسير يسيرًا، والصلب لينًا، والغامض شفافًا، والبعيد قريبًا، والبطيء أسرع، وغير ذلك من تحسين أساليب العيش.
ثم إنه صار بعضهم ينافس الآخر لجعل أعباء الحياة ألطف، في حين سارع آخرون في تغيير مسار الإنتاج التقليدي للأحسن، باستعمال آلات جديدة وآليات ذكية لتسهيل أنماط المردود المختلفة حسب الحاجة أو الرغبة.
تحياتى وتقديرى لك على
هذا الجزء الرائع 👍🌷❤
لك مني أجمل تحية و شكرا على كل مساندة منك يا سعاد..الى اللقاء و تجربة أخرى...🧡
رائع صديقي
اسعدت بمدحك لي و اشكرك يا شهد على متابعتك القراءة لي..تحياتي الخالصة 🧡
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.