رؤية من زاوية فلسفية للحياة (ج 3)

هذا هو الجزء الثالث من مقال أدبي فلسفي يتحدث عن الحياة وصراع الإنسان فيها وتفكيره في جعلها أكثر ملاءمة له ولمعيشة أكثر راحة قلبًا وروحًا وغاية الإنسان الحقيقية من الوجود.

اعرف طريقك واسلكه

لهذا على كل من نوى أخذ زمام أمر حياته كفردٍ ينتمي إلى مجموعة بشرية متحضرة، وصاحب قيم وأهداف واقعية، أن يبتعد عما يمكنه أن يعيق مساره المسطًّر، وكذا الحفاظ على توازن ما بين أقواله وأفعاله، دون إصدار أي نوع من أنواع الانفعال القاتل لروح التراضي والتفاهم على ما يهم كل الأطراف، دون استثناء.

لا على مستوى الوعي بالمسؤولية حسب اتجاه ما يصبو إليه كل منهم، ثم كذلك على مستوى محتوى الموضوع أو المنتوج الذي يودّون تحقيقه على أرضية خصبة، وفي غضون مدة معينة وتحت ظرفية مدروسة جيدًا.

بحيث لا يجب ترك ذاك الهدف كمولود منتظر دون حماية كافية أو دون رعاية مستمرة إلى أن يرى النور، ومن ثمَّ يجب السهر على توفير الضروريات له قبل الكماليات، وذلك فقط لإحباط كل عنصر مفاجأة واردة أو لإفشال كل محاولة لقرصنة أو مضاربة أو زعزعة أركان قواعد سياسة حسن التصرف في ذات المجال، الذي أضحى سبب وجودنا ها هنا دون مكان آخر.

بل إنه سر خلق مثل هذه الأفكار المركزة والرامية في الأساس إلى حمل أصحابها إلى مستوى محترم على هرم مجتمع راقٍ من بين المجتمعات العالمة.

فالكل في هذه الدنيا يبحث بكل شغف عن حياة وردية، في حين يوجد من يتسابقون للحاق بموكب الشهرة والعالمية، ومنهم من يتهافت على كسب ورقة فوز مهما كلفه ذلك من تضحية.

سباق الناس في الحياة

ويوجد من جعل من نفسه عبدًا لأسياد كانوا عبيدًا فيما مضى، وفيهم من عاش على التمني، فلم يحقق في حياته إلا أوهامًا متلاشية... كثير منهم من قرأ فنجانه المقلوب، وتعلَّق بما لا يمتلك، وتابع حياته معتقدًا أنه ضحية آخرين، وآخرون سئموا من مسلسل معاناتهم، ماسكين بحبل الأمل الرقيق.

وقليل منهم كذلك من أطلَّ من نافذة المعرفة فاكتشف أنه موجود على جزيرة صغيرة لا تصلها البواخر الكبيرة...

فإشكالية نماذج الحياة كثيرة قد لا تُحصى، إلا أن الكل يُلغي بلغوه، فتختلف آمالهم من أحد لآخر مع أن فسيولوجية أجسامهم تتشابه. وكما أن لكل إنسان عاقل "أنا" ونفسًا واحدة، إلا أن مشاعرهم وكذا أحلامهم تتباين من فرد لآخر، ونادرًا ما يوجد استثناء في ذلك.

لأن جلَّ المخلوقات الحية لا تفتر عن تكريس كل زمنها لتتمكن من إشباع رغباتها في مزيد من فرص قنص حصص أخرى، وبلا شك لكل غايته في ذلك أيضًا؛ فمنهم من يكتفي بملء أحشائه بما يشتهي، ومنهم من لا يهتم بما بحوزته بل يركز عينه على ما ليس بين يديه، وغيرهم تراهم يترقبون قوت يومهم كما ينتظر البحَّار ما سيحمله له حظه، وآخرون هدفهم الأسمى أن يبيتون وبطونهم ملآنة.

ومنهم كذلك من يبحث عن غذاء الروح والعقل قبل إشباع ذاته، وفيهم أولئك الذين يقتاتون على ما تبقى من موائد الآخرين، وأغلبهم من يسعى لتغيير نمط حياته إلى الأحسن مهما كلفه الأمر ذلك.

صدفة واحدة قد تقلب حياتك

وكما يوجد أناس يتمنون ليلًا ونهارًا أن يأتي إليهم الفرج يومًا ما وهم قانتون، يوجد آخرون لا يعرفون اليأس ولا يعترفون بالقدر أو المصير، لكن أملهم الوحيد أن يطل عليهم الحظ مهما تأخر...

يأتي الزمن قسرًا وليس اختيارًا، ويذهب إلى حيث يمضي، آخذًا معه كل من اقترض بعضًا منه، لأنه لا يمنح شيئًا منه بالمجان. أما نحن البشر، فليس لنا إلا أن نلتزم بما فرضته علينا ظروفنا، ولا يبقى لنا سوى اختيار ما بداخل دائرة الزمن، مهما تأخرنا.

وهنا تؤدي الصدفة أحيانًا دورها المفاجئ، لتهيئ من وراء إدراكنا ظروفًا قد تكون أحيانًا إيجابية، فنسعد بذلك إلى حد ما. وقد يكون العكس كذلك، فنتحسر، بل لا نقبل به كمصير في حياتنا ولو مدة.

فتجدنا نحضُّ على أن نقلب موازينه لمصلحة أهدافنا، ولو كفرنا بما كنا نعده قدرًا وليس مجرد فرصة ما. وهكذا نتابع مسيرتنا وكأننا مالكون زمام شؤوننا، ومتوهِّمون أن بشرى الأمل آتية لا محالة، وأنه لا يدوم حال على حاله، وأن لكل بداية نهاية، وكذا لكل أمنية سبب، وأن مشيئة الخالق دائمًا ما تأتي عند حاجة المخلوقات ببصيص من كرمه...

ويوجد من لا ينتظر قدوم الفرج إليه، بل يصنعه، أو في الأقل غالبًا ما يسهم في استقباله، ولو كانت عن طريق قيصرية، لا يهم. لذا لنا أن نتحضَّر لتوفير أجواء سانحة للحفاظ على ما هو قادم إلينا، بكل عناية وحرص، على ألا يصاب مولودنا بأي مكروه أيا كان؛ لأننا نعده كذاك الملاك المنقذ لمركب حياتنا، المهدد من خطر التهشيم بأنياب آفة الفقر أو المرض مثلًا.

ولأنه أملنا الأخير، قد لا يسعنا إلا أن نضحي بكل نفيس وغالٍ لدينا، ولا يوجد أغلى من أنفسنا وكياننا الذي به نحن قائمون، ومن أسباب وجودنا ها هنا.

لهذا، غالبًا ما نكابد الصعاب، ونعمل جاهدين على أن نترك لخلفنا كل ما امتلكنا من ثروات مادية ومعنوية كهدية ثمينة، كل من وجهة نظره، لن يبخل أحدنا بما لديه لتقديمه بكل حب وامتنان لذريته، آملًا أن يكون الخلف عند حسن ظن السلف...

أعط كل ما لديك لولدك

وهكذا تتوارث الأجيال فيما بينها وكأنها عملية مد وجزر، فتضحى الأقدار كالأمواج، وتظل الصدفة ساطعة على الكل كالشمس حينما تطل علينا بأشعتها عند كل بزوغ فجر. فيا له من مشهد، آية غاية في الجمال، على الرغم من أنه ليس كل منا يراها من نفس الزاوية. لكن الأذواق والألوان لا تناقش، كما يقال. أما لكي نتصور ذلك، فلكل حيله، ولكل أساليبه، ويبقى الظرف الزمني كذلك مصدرًا لإيحاءات شتى.

ماذا تريد من الدنيا؟

والآن قد يجب أن نرصد تلك اللحظة المواتية لإسقاطها على ما نود أن نحقق في دنيانا كشيء ضروري، حتى نتمم إحدى أهدافنا المرجوة. ثَمّ نترقب مباشرة، أو قبل أن يأخذ الملل مكانه بجوارنا، لنصده عن فعل ذلك.

وهكذا نتعود على تكرار الفعل ذاته، إلى أن يمسي أمرًا لا نتخلى عنه بسهولة، وكأنه أحد طبائعنا المعهودة التي تصبح عادة خاصة كذلك. ولكل فلسفته في اتخاذ أو ترك ما يشاء في حياته الشخصية كأسلوب في تغيير عاداته بطريقة متدرجة؛ لأن غايته من ذلك أن يحسن من مردودية عطائه مهما كان...

وهذا مطلب لا يأتي بالتمني، أو إنه لا يتأتى له ذلك إلا إن كنا على استعداد تام لذلك. ثم وجب علينا أن ندرك مبدئيًّا أن لكل محاولة جديدة لخلق نمط جديد أيضًا، يفترض أن نختار من الأساليب أجملها وأقربها لأنفسنا، لكيلا نسقط في فخ المقارنة الهدامة، بل على عكس ذلك، علينا أن نبحث عن أنفسنا في أنفسنا، وأن نجد لها منفذًا بداخل دائرة قدراتنا وملكاتنا، حتى إن بدأنا في لمس بوادر مشروعنا، نكون قد فزنا بمرحلة مهمة كانت بالأمس كحلم ربما صعب المنال.

وهكذا وجب أن نتحلى بكل جرأة وحزم في اتخاذ أي قرار، خاصًّا كان أو عامًّا، لكن إن كان الموضوع يتعلق بظرفية استثنائية، فالواجب يحث على أن نأخذ نفسًا طويلًا لذلك، ثم نميّز ما بين الصالح والطالح من الأمور المعروضة...

اتخذ قرارك بحزم

وهكذا، علينا أن نتجنب كل مسبب للقلق أو التوتر؛ لأنه يقلل من إلحاح المرغوب فيه، وكما لا ننسى أنه كلما كنا حريصين على وجود الأسباب الناجعة لوجودنا ها هنا دون مكان آخر، لكنا أقرب للإمساك بالنتيجة المرجوة مهما كان الثمن. وأخيرًا، يوجد ما يسمى بـ"فن الحياة"، الذي قد يجلب لنا بواعث السعادة والاطمئنان، وطبعًا لا يفوتنا أن نثمن تلك اللحظة التي على إثرها نحيا تجربة نادرة لا تُنسى...

أنت من تحدد وضعك وقيمتك

يوجد من البشر من يرى نفسه تائهًا بين دروب الحياة التي لا ترحم أوضاعه بصفة عامة، ولا تعيره لحظة اعتبار، كونه خُلق إنسانًا بريئًا، كما باقي المخلوقات، يعتمد أولًا على فطرته في كل شؤونه الخاصة، ثم قد يلجأ إلى ما اكتسب من محيطه، وكذا إلى ما لملم من تجارب وممارسات صارت عادات أو مسلَّمات. أحيانًا، يكابد من عدم فهم كل أسباب أو دواعي ردود أفعاله، على الرغم من مكانته البارزة في أوساط الموجودات الحية الأخرى.

فتجده غالبًا ما يضطر إلى أن يُستعبد من طرف الزمن المقنن مثلًا، ومن قوانين وضعية، وكذا القيام ببعض الزيجات أحيانًا إرضاءً لذويه ومحيطه، وكذا لما ورث من أسلافه دون أي اعتراض يُذكر...

أحيانًا نجد الفرد منا يجابه بعض الصعاب فقط من أجل الاستئناس أو الإحساس بالانتماء إلى ذرية آدمية تعيش على نمط شبه موحد، ما بين البحث عن وسائل العيش الكريم والتطلع إلى ما هو أحسن، أي محاولة التوصل إلى إسعاد نفسه بكل الطرق المتاحة على المستوى الروحي والمادي أو المعنوي، وبما يؤمن به ويعمل على تحقيقه كهدفه الأسمى في حياته.

هدفك إسعاد نفسك

وهنا نتحسس قدرته الفطرية على الاندماج في محيطه، بل على صرف ملكاته على اختلاف مشاربها، تلك التي تدفعه إلى اقتحام ما لم يكن يدريه من قبل، وكذا رغبته الشديدة في البقاء حيًّا أطول مدة ممكنة. وكما لن يبرح مكانه إلى مثواه الأخير، إلا وهو يتمنى أن يصل إلى ما لم يصله غيره...

والأغرب أنه يعي أن عمره قصير، وقد يلاحظ أن ماضيه أطول من مستقبله، وأنه ما أوتي من العلم إلا قليلًا، وكما أنه على الرغم من خصوصية تركيبته البيولوجية على غرار كل المخلوقات الحية، له صفات مجردة من كل طبيعة خارقة، أو أنه على الرغم من اعترافه بقصور إدراكه لأقرب الأشياء المحيطة به، تراه يتمرد على أوضاعه كما أقدمت، وكيفما صارع حظه أو مصيره، فيبدو وكأن لسان حاله يشكو من أشياء ما فتئ يتستر عليها ويتبرأ من خطاياه، وكما قد لا يقبل بما كسب إلا إن كان مكرهًا. أما غاياته فلا نهاية لها، ولا هي تعرف المستحيل إلا نادرًا.

أما الجميل في كل ما سبق، فهو أنه أحيانًا يفكر أو يدَّعي أن له صفات من صفات الخالق، كدليل على أنه أذكى ما خُلق، وأنه لم يفجر بعد كل طاقته التي تبرهن على ادعائه هذا. وقد يطغى إن هو حقق بعضًا مما كان يحلم به آنفًا.

ماذا إن فشلت؟

أما إن خفق في اختياره، فقد ينسب ذلك لسبب ما أو لآخر، أو لسوء حظه الذي صنعه بيده اضطرارًا أو إصرارًا منه. وعلى أي، فكل إنسان منا أناني بطبعه أو بطابعه، بحيث تربى على ذلك، والمعروف أن من شبَّ على شيء شاب عليه. فصار كل همه أن يمتلك أكثر فأكثر كلما أمكنه ذلك، وهو لا يعلم أنه مصاب بمرض حب جمع أشياء، حتى ولو لم يكن محتاجًا لاقتنائها، مهما كان يمتلك منها أو من غيرها.

وهي حالة نفسية غير طبيعية، بل إنها بالضرورة فخ يسقط فيه كل من مسّه ذاك الجشع غير الإرادي، الذي قد يجعله لا يبالي بالحالة المرضية التي وقع في مطبِّها، دون أن ينتبه للمآل غير المستحب الذي قد يؤدي به يومًا ما إلى زيارة استشارية لأحد المختصين في مثل هذه الحالات المرضية الصامتة...

وقد تكون العزلة أحيانًا ملجأ لكل من كانت نفسه تراوده حنين العودة إلى موطنها الأول، إذ تلتقي بالأماكن وزمن صباها، فتجدها وكأنها تريد أن تمكث هناك إلى الأبد.

العزلة علاج للحنين

ولربما قد تود زيارة ما تبقى من ذكريات قد مر الزمن عليها دون أن يقف على أطلال باتت تحت ظلال النسيان. وكل نفس ذائقة نار شوق اللقاء، فتغدو وكأنها تبحث عن أمل ضائع، أو عن هدف يتلاشى كلما دنت منه، أو عن الحقيقة، تلك التي يطفو طيفها عندما نتعب بالتفكير كثيرًا فيها.

فحين نود إيصال رسالة ما لأحدهم، ننقر على أوتار أحاسيسه، خصوصًا إن كنا نعلم أن فعلنا هذا نرمي به إلى تمكينه من الاقتراب أكثر من نفسه ومن إنسانيته، تلك التي قد يفتقدها إن هو لم ينتبه لكل خطوة في مسار حياته، أيا كانت ألوان طابعها.

إذا أقدم على التخلي عما يمتلك بالفطرة، فلن يسعه الاحتفاظ بما اكتسبه خلال مدة إقامته على هذا الكوكب مهما حاول، فلن يفلح إلا إن هو سارع إلى وجود توازن عادل بين ما يحلم به وبين ما هو عليه في واقع حاله. أما كيفية التحقق من ذلك، فهو أمر ليس بسهل المنال، لذا عليه أن يقارع من كثب حاضره وكأنه يصارع وحشًا ضاريًا، فإما أن يسلك طريقًا آخر، وإما أنه قد يحاول أن يقاومه حتى لا يفترسه كطريدة مجروحة أو مريضة...

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

مشهد من الحياة في غاية الجمال ياريت كتابة المزيد
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

حاضر سيدتي بعد أن أشكر ك على مدحك هذا و الذي قد يحفزني أن اجتهد أكثر بفضل الله ..تحياتي 👍
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

بالفعل الانسياب في طرح الأفكار جميل وممتع ...ابدعت الكتابة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا شهد على دعمك لي و اني احاول ان اخلص للكلمات حتى تقربني اليها اكثر ...تحياتي لك 👍
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

كم جميلة هذة الكلمات والأجمل
رحلة البحث داخل انفسنا حتى نجدها
بين دروب الحياة المبعثرة؟
أبدعت يا أمير الكلمات 👍🌷
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا لك يا سعاد و الاجمل أن اتلقى كمثل هذا المدح المحفز...تحياتي الخالصة 🧡👍
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة