رؤية من زاوية فلسفية للحياة (ج 2)

ومن أغرب تحديات هذا الكائن العاقل، أنه يعلم علم اليقين بأن أيامه معدودة على وجه الأرض، وأن مصيره مرتبط بمؤشر الزمن أكثر من أي شيء آخر. وعلى الرغم من ذلك تراه يتناسى أو يعمل بكل جد أو كسل ليتحاشى واقعًا لا مفر منه، مهما فعل ومهما تذكى، فإنه لن يقاوم المنية كحدث آتٍ آجلًا أم عاجلًا، مع أنه قد لا يبخل على نفسه بأية فرصة في الاحتفال بذاته وحده أم مع ذويه.

وكأن مسار حياته لا نهاية له، بل إنه يتعمد أحيانًا أن يسابق الزمن محاولًا الانتصار عليه، ولو أنه قلَّما يعترف بقصور إدراكه أو قوته، أو بالأحرى قد يُعلل دواعي استسلامه بذريعة أقبح من خطأ.

قدرة البشر على التكيف

عجيبٌ أمر بني البشر، من ناحية تكيُّفهم مع محيطهم مهما صارت الظروف ومهما كانت معاناتهم، حتى تجدهم يباشرون حياتهم في صمت مرير أو في أنين ساخط، لكنهم لا ينهزمون ولا يستسلمون إن وجدت أبسط ضروريات الحياة، من ماء ومأكل كيفما كان صنفه، وسقف يأويهم من حرّ الجو أو صقيع البرد، وقد يكفيهم غطاء الأنس دفئًا اجتماعيًّا، وقناعة مشتركة للتعايش مع أمل لا حد له في الأفق.

إن سُمح لي أن أقارن مجتمعًا من الكائنات الحية الشبيهة بمجتمعاتنا البشرية، لفكرت في مخلوقات أرضية متماسكة كمجتمع النمل الذكي والصبور، وإن كانت من مخلوقات طائرة، تبادر إلى ذهني مجتمع النحل الحكيم والخدوم، وأما إن كانت مخلوقات برمائية، فقد أدهشتني خصوصية مجتمع البطريق، لكونه حيوانًا فضوليًّا وحنونًا، على الرغم من أننا نلاحظ أن هذه المجتمعات السالفة الذكر، جلها لها خصائص وأساليب عيش مختلفة عن غيرها.

ومع ذلك فإنك تجد أن رابط التماسك والتحدي الذي قد يجمعها على هدف وحيد، وكأنها عائلة واحدة، ألا وهو تكفلها بكل ما يمت بضمان استمراريتها على النحو والحال، مع أن لكل مجموعة بيئةً وظروفًا خاصةً بها، تراها تعيش في تناغم فريد بمستعمرات كثيرة، وعددها قد لا يُحصى كذلك.

كان اختياري لهذه الفئات من الكائنات الحية غير العاقلة أساسًا لإسقاط طبيعة حياتها فيما بين أفراد كل مجموعة منها على حدة، بصفتها تطابقًا لنوع وطبيعة حياة بني البشر، فوجدت ملاحظة، أن ميزة العقل عند الإنسان هي منبع أو بؤرة جل مشكلاته بخيرها وشرها بصفة عامة؛ لأن معظم الحالات الدنيوية لديه مبنية على نرجسية حادة، وقد تتعدى هذا إلى درجة مرضية، يصعب الشفاء منها وكأنها جائحة؛ لأنها تفوق أحيانًا فطرته الحيوانية وكل أنواع الكائنات الموجودة على سطح الأرض.

عقل الإنسان هو منبع مشكلاته

وذلك في نظري، لأن تركيبة جيناته الوراثية توحي لنا بأنها جد معقدة، وقد لا تجد لها تفسيرًا منطقيًّا مهما افترضت أو خمنت أو حتى لو اجتهدت في تحليل بعضٍ من ردود أفعاله؛ لأنك لن تتوقعها بصفة استباقية إلا نادرًا.

وتوجد حالات غريبة أحيانًا، وأمور أخرى مبنية للمجهول؛ أي إن هذا الكائن المفكر قد يصيبك بالذهول من شدة الصدمة أحيانًا، على إثر ما قد يصدر منه كونه جوابًا بريئًا من جرم الإنسانية فيه، أو من جراء بعض تصرفاته الملتوية، كأن يتحايل فيؤدي دور المظلوم ليبرئ ذمته، أو أنه قد يتجاهل وجود الآخر لغايات ما في نفسه، وغيرها من بعض سلوكياته التي ننسبها للشيطان أحيانًا، ولعل الأخير بريء منها؛ لأن الإنسان قد يفتعل ما لا يُصدق، وقد يحيرك أمره دهرًا، فلا أنت له مسامحٌ ولا أنت معاقبٌ له.

ودون مبالغة، يوجد من البشر ما يدفعك إلى التساؤل عن الحالة النفسية لديه، لما قد يصلك منه كارتسام أو تعامل، يفقدك العقل أحيانًا من فرط طيشه أو لامبالاته اللامتناهية أيضًا.

الغريزة عند بني البشر

كل المخلوقات الحية تتصرف فيما بينها بغريزة طبيعية ألفناها، ومنها تلك التي تخص بعض بني البشر الذين يدبرون شؤون حياتهم تحت تأثير الظرف والحال، مع حالات استثنائية واردة؛ لأنهم يجمعون ما بين الواقع والخيال، ولأنهم أصحاب نظريات وتجارب، وكما أنهم يعيشون على فطرة مكسوة بما اكتسبوا.

وحينئذ قد تتقاطع أشواط الزمان والمكان، لتنتج لنا شخصيات من المجتمع الإنساني. وهكذا، فبعد كل مخاض اجتماعي مرغوب فيه أو لا، سيرى النور جنين آخر، وارثًا عن ذويه كل البرامج المدمجة في ذهنه التي ستبرز خلال زمن معين كذلك، حسب نموه وإدراكه للأشياء بصفة عامة، إذ يبقى مصيره مجهولًا لا محال إلى حين.

لكن هذه العملية في بعدها الصيروري تروم إلى إبقاء هذا الكائن الباحث عن موارد رزقه، منشغلًا بما يلبي له ضروريات الحياة مهما كلفه الأمر ذلك، من جهد وتضحيات منذ تحمله مسؤوليته الذاتية إلى أن يُوارى ثراه؛ لأنها سنة الحياة لديه. وهي أيضًا فرصة لاستقبال الوارد بعد ما نودع المغادر، دون أن نتساءل لماذا وجد هذا التعاقب بهذه الصفة دون غيرها؟

ولعل الحكمة هنا تقتضي أن نقبل بهذا الجزاء القاسي، مقابل أن نعترف بأن دورنا الأساسي في هذا الوجود له معنى واحد لا ثانٍ له، ألا وهو أن نقود كل باقي الكائنات الحية لتلبية رغباتنا فقط، حتى ولو أجرمنا في حقها عفويًّا أو عن علم اليقين.

ولقد تحققت أماني بعض المجرمين في حق أرضنا الأم، عندما استطاعوا أن يجعلوا من كوكبنا المضيف مطرحًا لنفاياتهم، وصار ماؤه الزلال معكرًا بسموم هم من صنعها، وأضحت سماؤه تشكو من فتق هم من تسببوا في تلوثه بغازات قاتلة، وكما اقتلعوا مساحات من غاباته بجنون، وأحرقوا منها كثيرًا بجهالة، واستغلوا ما في بطنه بنهم وشراسة أيضًا. فأصبح مصيره مخيفًا جدًّا، في حين هم في غفلة عما يعانيه هذا الكوكب الصامد من إجرام واللامبالاة، وأحيانًا ما تكون أفعالهم أو نتائجها مقصودة كذلك، وحسرتاه.

معاناة كوكب الأرض مع التلوث

إذ لكل فرصة ضريبة، ونصيبنا من هذه الرسوم الأزلية أن نخلص لمبادئنا الطبيعية تجاه كل موارد الأرض؛ لأنها كنزنا الذي لن يفنى إن نحن أصلحنا أمورنا، وحافظنا على مقوماتها الأساسية، وكلما ضحينا من أجلها بأوقاتنا ولو بالقليل منها، بل إنه واجب قبل أن يصبح مبدأ، لهذا كان على الإنسان أن يرعى خصوصية مضيفه، لأن فضل المضيف غالبًا لا يقاس بسلوك الضيف، مهما كان الحال أو مهما بدا الشكل، ولأنه "ما ضاع حق وراءه مطالب".

الفرق بين الصدفة والحظ

ولسوف يتعلم هذا الأخير من تجاربه الحياتية دروسًا، لكي ينتبه أكثر لما ينتظره من واجبات لا تناقش. ومن أجل أن يراجع نفسه في احترام ذاته، وكذلك تقدير كل ما يتعلق بمحيطه البيئي، ودون أن يغفل عن تقبل رأي الآخر، ودين الآخر، وثقافة الآخر، وتراث الآخر وخصوصيته كذلك؛ لأنه لا فرق بين بني البشر إلا في نصيبهم في الحياة والممات، ولو أن مصيرهم مشترك في كل مناشط الحياة، ككائنات معقدة التكوين ومعتمدة في ذلك على عرق جبينها لتوفير قوت يومها، ما بين منتج ومستهلك، وبين عارض وطالب، إلى ما لا نهاية كذلك.

وكثيرًا ما نستهلك أوقاتنا سدى دون أن نحظى بمتعة مدة التأمل، بل غالبًا ما نهدر زمنًا كنا نملكه أحيانًا بلا حق ولا إنصاف مقبول.

ومع ذلك نتوهم بأننا نحسن التصرف، وقد نتباهى في تصريف أوقاتنا المتوفرة ما بين ما نحلم به آجلًا، وما نود الحصول عليه على عجل، غير مبالين بأن قطار الزمن لا تذكرة له، ولأنه لا ينتظر أحدًا مهما كان شأنه، ثم إن أردت ركوبه، عجَّلت باللحاق به مع احترام مواعده، وأما السفر على متنه فواجبه استعدادك ورغبتك الملحة في ذلك، الشيء الذي يجعلك أهلًا لنَوع وصنف إحدى عربات قاطرته.

وحينئذ قد يلعب الحظ أحيانًا دوره لمصلحتك، أما الصدفة فنادرة؛ لأن لا شروط لها ولا قيود لها كذلك، فإما أن تكون بطلًا بها وإما ربما لأن عقارب الزمن لا جنسية لها، فلا تعترف بمن أراد لها الفتور أو التأخر عن صيرورتها.

ثم إن حجم الوقت الذي قد نبدده في بعض التَّفاهات لا بد أن يُخصم من زمن أعمارنا المحدودة شِئْنا أم أبينا ذلك؛ لأن قانون العد العكسي لحصيص ما نملك من الزمن لا يعارضه أحد؛ لأنه العدل عينه، أما المحكمة العليا هنا فهي رَبَّانية، وما أدراك من قدرة الخالق على ذلك الإبداع الذي سيبقي عقل المخلوق فيه حائرًا إلى أن يرث المبدع الأرض وما عليها، وهذا حق أيضًا.

حكمة ربانية تحكم الدنيا

لكلٍّ أهدافه بهذه الدنيا البائدة على نمط مجتمع القطيع هذا الذي لا يرى من جوانبها إلا ما ومن يدور من حوله، فيمشي على درب من سبقوه من باب الموروث والتقليد الأعمى. أو لمجرد أنه لا اختيارات له على الإطلاق، فتجد أن أسعد لحظاته هي تلك التي يُلبي فيها احتياجاته الخاصة، ككائن مستهلك لكل طاقاته في سبيل إشباع جوعه الفطري كأي حيوان دون استثناء.

وتبقى أسمى غاياته أن يمتلك زمام أموره المادية، ليتفرغ للمتعة واللهو مع -أو بعيدًا عن- باقي قطيعه. وقد يحتفظ بمن يُذكون فيه إحساس القوة والسلطة، معتقدًا أنه بذلك قد ملك فضاءه، وينسى بأنه ما زال تحت رحمة مالك السماء والأرض.

أنت مؤهل لمهمتك في الحياة

ويوجد غيرهم، وهم قليلون، من الذين يستحوذ عليهم تفكيرهم في بناء مستقبل زاهر، لكن بعد جهد وصبر ومثابرة، أما طاقتهم المحركة لهم فهي الحاجة للمعرفة، وليس الرغبة في الاغتناء. وعُمومًا، لو رسمنا مَبيَنًا على شكل هرم بشري، فإنك ستجد أن قاعدته يملؤها عامة الناس، كما هي في مستعمرات النمل مثلًا، فمنهم عمال ومستخدمون وموظفون صغارًا.

وهكذا فقد ترتبط مهمتك بِما تحمل معك من أدوات ومعدات وخارطة الطريق، لتقوم بما قد يُطلب منك، أو قد تكون محظوظًا، لتجتمع بشخص أو بأناس لكي تتمكن من الاستثمار في معارفهم أو في نطاق خدمات قيمة بالمقابل، إلى غير ذلك من تبادل خبرات تشاركية في مجالات عدة، وعليه فقد يكون نصيبك أوفر أو أقل.

المهم، أن تُخول لك هذه التجربة ربح قسط من العملية مهما كانت قيمتها. ما قد يكون لديك دفعة إيجابية في اتجاه نجاحك في تلك المحاولة، وبذلك سيرفع هذا من شأن نسبة معنوياتك لمواجهة تحديات أخرى، وأنت صاحب رصيد لا بأس به في عالمك الجديد، لا على المستوى النفسي وحسب، بل حتى من جانب الهامش المادي أيضًا.

لهذا وجب أن تتوفر أساسًا على مهارات وكفايات معرفية مصقولة، بقدر التجربة أو التكوين في ميدان أو أكثر في جل المجالات المتاحة أو المطلوبة في فضاء محيطك في الأقل.

أما الطبقة الوسطى، فهي للمحظوظين الذين "لا يسألون: من أين لك هذا؟" كما هي الحال كذلك لدى مجتمعات النمل والنحل، الذين يحرسون ويخدمون أسيادهم ومالكيهم بكل تفانٍ وإتقان.

ثم يوجد أصحاب الجلالة والسمو الذين يتربعون على الثلث الأعلى من الهرم، وهم أوفر حظًا مما سبق؛ لأن لهم كل ما يشتهون، بل أكثر مما قد يحلمون به أحيانًا، ومنهم من قد يردد قولة "هذا من فضل ربي"، ودون شك، هو نفس رأي ملكات النحل كذلك.

الطبقة المحظوظة من البشر

وتوجد جماعات كثيرة كذلك، تؤمن بالحرية من زاويتها السامية، أي إنهم يعيشون على هواهم، لكن دون أن يفرطوا في معاملتهم بها وسط باقي الحشود البشرية. وهم حكماء؛ لأن لهم حس إنساني فريد، وهنا قد أستحضر مجتمع البطريق، كمثيل لهؤلاء من بني البشر الذين ينعمون دون غيرهم بأوصاف حميدة، لكونهم قد تمكنوا من تحقيق ذاك التوازن الفكري المفقود لدى كثير من سكان الهرم البشري.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

ممتاز جدا وفلسفي ربنا يوفقك
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

اشكرك سيدتي على مدحك هذا ...و اتمنى ان يوفقني الله و إياكم في التبليغ و التعلم ايضا..👍
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

صح قلمك وعظيمة هى كلماتك
ابدعت ي أمير الكلمات 🙏
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا لك سعاد ارجو ان اكون قادرا على المشاركة اكثر في حديقة الثقافة هاته أعني "جوك" 💗
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة