رؤى (لذلك هي أنا)

بدأت الحكاية في العاشر من مايو عام 2007 يوم ولادتي عندما استنشقت أنفاسي الأولى لتبدأ رحلتي في هذا العالم المجهول بالنسبة لي، ولكني كنت موقنة أنني لا محالة سأكبر يومًا ما، وأحمل بين أنفاسي أمنية طال انتظارها أن أحقق فرحة التخرج لنفسي ولعائلتي وأقر بها أعينهم، وبالفعل أخيرًا أصبحت كبيرة، ووصلت لليوم هذا الذي لطالما تمناه والدي ليتمكنا من رؤيتي خريجة، مع أنني كنت بالأمس في المرحلة الابتدائية، وكنت وما زلت في نظرهم طفلتهم المدللة بالنسبة لهم ولإخوتي. لقد كبرت وترعرت في عائلة تحبني وتدللني، وفي الوقت ذاته تعلمني أن أكون طموحة قوية وصاحبة قرار. خلال رحلتي لأكون نجمة لامعة سقطت وتعثرت مرات عدّة، لكني كنت مصرة على النهوض في كل مرَّة لأصعد نحو القمة، وفي كل مرة كُسرت أو جُرحت فيها خلال مسيرتي، واصلت لأن لذة الوصول منحني إياها الله.

مررت بالمرحلة الابتدائية، ثم الأساسية، حتى وصلت إلى الثانوية. حاولت عائلتي أن تمنحني حياة مثالية، ولكن ولأسباب عدة، لا أحد يمتلك حياة مثالية، ومع ذلك حظيت والحمد لله بطفولة سعيدة.

ما زلت أذكر أنني بالأمس كنت تلك الطفلة التي تركض وتلعب في أرجاء البيت، التي تصحو كل يوم بأمل جديد ونفس طويل لتبدأ من جديد. تذهب كل صباح للروضة وترجع للبيت وهي مفعمة بالطاقة والحيوية، آملةً أن تمنح الحياة حياةً لتسعد وتسعد من حولها، آملةً أن تكون الحياة وردية مثل أحلامها البريئة. وهكذا الحياة، بلمح البصر وبدون مقدمات، أوصلتني للثانوية العامة، المرحلة المصيرية التي تحدد هويتي وترسم مكانتي في هذا المجتمع، وواصلت الاجتهاد لأنني لطالما كنت أطمح أن أكون بالقمة منذ صغري، لا أرضى بالقليل، وأنا قادرة على فعل المستحيل. لقد غامرت بشرف في رحلتي للصعود أولًا لأُصقل ذاتي وأكون نفسي لأستحق وبجدارة أن أكون على رأس الهرم عاليًا أنا وقبعتي مكللة بالنجاح، وكلي فخر واعتزاز لأنني عاهدتك يا أمي، ووفيت بعهدي، ورأيت عينيكِ تضحكان أخيرًا.

تعلمت من أمي أنني أستحق الأفضل في كل زمان ومكان، وأنني قادرة دومًا على التغلب على تلك الفتاة الحساسة الرقيقة التي تسكن داخلي منذ صغري، فعندما يطرق أحدهم الباب بقوة ليؤذيها، كانت دموعها تنهمر كالشلال دون وعي منها، إلا أن أمي ساعدتني حتى التقيت بها، وتمكنت من حل الخلاف بيني وبينها، لأصبح قوية مع قليل من الرقة والحساسية التي لم تقبل أن تختفي كليًا، فوافقت، لأنها أنا، وأنا أولى بأن أكون نفسي.

أدركت أخيرًا، وإن كان متأخرًا قليلًا، أن كل موقف مررت به منذ ولادتي قد علمني درسًا وترك أثرًا في نفسي، وأثار فضولي لاستكمال رحلتي بحماس، اندفعت نحو الحياة مفعمة بالطاقة والحيوية، حتى وصلت إلى اليوم الذي جعلني أنظر إلى كل ما مضى على أنه بسيط وعادي.

أصبحت أرى ما كان يدهشني بالأمس أمرًا باهتًا اليوم، في الأقل لي، لم أعد أعطي أحدًا أكثر مما يستحق، ولكني أمنحه فرصة ليرسم مكانته في قلبي بنفسه، فقد تعلمت أخيرًا أن الناس من حولي مثل مجلة تستحق مني دقيقة لتصفحها، لا لامتلاكها.

الغلاف قد يجذبني دقيقة، ولكن المحتوى هو ما يحدد إن كنت سأواصل قراءتها حتى العام القادم لأتمكن من اتخاذ قراري بشأنها ومكانتها في داخلي.

وكل شيء سوف يزول، حتى شعوري الذي كنت أعتقد أنه لن ينتهي، سيأتي يوم أتعجب كيف كان يؤلمني.

أبي، يا أعز الناس على قلبي وأكثرهم مودة، حبيبي وصديقي بلا شبهة، وسندي ومسندي وأماني واطمئناني بعد الله، صاحب القلب الطيب الذي احتواني على نحو دائم، صديق طفولتي، والملاك الحارس بالنسبة لي، الرجل الأول في حياتي الذي أرشدني للسير في طريقي وساعدني لصنع خريطتي لأصل إلى هنا اليوم.

لقد علمتني ما معنى الحياة، وأنا صنعت لك الحياة كما علمتني، لأنني حاولت مرارًا وتكرارًا أن أجعلها خفيفة على قلبك، وردية مثل أحلامك التي كنت ترسمها لتضعني داخلها دائمًا، لأكون ذكراك المميزة والوحيدة في هذا العالم كما وعدتني.

حبيبي وعزتي واعتزازي، فخري ومفخري وأماني، كل يوم في حياتي يمر بوجودك بحلوه ومره. كنت وما زلت صديق طفولتي، صانع ذكرياتي، الفنان الذي نحت مكانته في قلبي واحتل فؤادي، الأب الحنون المحب لابنته، الداعم لها، الذي ما زال يراني طفلته المدللة، ويتحمل سذاجتي وسخافتي وعدم نضجي عندما أكون أمازحه دون وعي مني، وهو يبتسم لي ابتسامة الفرح. رؤيتك وأنت تدعو لي لأحقق مرادي، وتراني خريجة، وعيناك تغرورقان بالدموع، تظهر حبك الصادق لي، وهذا يكفيني.

يا من نسجت لنا من عرق جبينك سترةً تحتوينا، يملؤها الحُب والدلال ودفء العائلة، وبهذا استحققت كلمة «أبٍ» فعلًا، فأنت قد غمرتني بعطفك وحنانك رغم كل الظروف، والآن حان دوري لأنسج لك من هذه الكلمات سترة لا يستحق سواك ارتدائها، متمنية من الله أن يديم عليك صحتك وعافيتك، وأن أحقق مرادك، وأراك وأنت تلتفت وتتفاخـر بي لمن حولك كعادتك. أعدك أن أفعل هذا.

صديقة طفولتي، شقيقة أحلامي، نصفي الآخر، حبيبتي وأنيسة روحي، طبيبة فؤادي، داعمتي في كل خطوات حياتي إلى الأبد، أمي وغاليتي، عزيزتي، قبل مجيئي للعالم هذا تعهدتِ برعايتي، وأوفيتِ بها، أحسنتِ تربيتي، ونشأتِني بكل حُب واهتمام، منحتِني حياةً تفوق الأحلام التي رسمتها، صنعتِ مني فتاة قوية ممزوجة بالرقة والحنية مع قليل من الحساسية الأشبه بالمفرطة، فتاة يحلم العالم أن يصبح مثلها، فريدة من نوعها. جعلتِني فتاة تعتمد عليكِ بوجودكِ وتثق بقراراتكِ تجاهها، وجبلًا قويًا صامدًا لا يهتز بغيابك، مستعينة بقوتي بعد الله.

في شريط ذكرياتي، احتللتِ اللقطات المميزة التي لا تُنسى. صنعنا معًا ذكريات لا تُنسى بأدوار مختلفة مثل الأم وابنتها، والفتاة وصديقتها.

لعبنا دور الشقيقات قبل ولادة أختي، أتذكرين عندما كنتِ تلعبين دور شقيقتي الكبرى التي تلعب معي، وتُسرِّح لي شعري، وتُجملني، وتقرأ لي قصصًا قبل النوم، وتنام بجانبي، وتغمرني بحنيتها المعتادة؟ وفي الصباح الباكر تُعدِّين لي الحليب مع الشوفان، وتجلسين معي في حديقة بيتنا المصنوعة بكل حب، مع نبتتي المفضلة «شجرة البرتقال المقزم» والأزهار، ثم تُجهزيني للذهاب للمدرسة. وهكذا عام بعد عام، وصولًا لليوم هذا الذي أصبحتُ فيه خريجة، كما حلمتِ، أمي.

«ربّاهُ، تعلمُ حُلمًا صِرتُ أجهلهُ،
من لي سواكَ سيُنهي كُلَّ أهاتي؟
لا رحلة ابتدأت، ولا درب انتهى؛
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.»

اليوم أطوي بين يدي كتابًا من اثني عشر فصلًا، في كل فصل حكاية ورواية مختلفة تصف فرحة تخرجي.

ها أنا اليوم هنا، أطوي كتابًا طالعته لاثنتي عشرة سنة دون أن أكل أو أمل، بدافع أمل وشغف كبيرين كانا يدفعاني نحو النهاية التي لطالما انتظرتها التي ما استطعت يومًا تخيلها؛ لأنها فاقت ما رسمته في ذهني، واستحقت أن تكون نهاية تليق بي.

ليس من السهل أن أصل لما وصلت إليه الآن، لكنني -في النهاية- وصلت، فالحمد لله.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة