لم يعُد رمضان كما كان الشهر الذي ارتبطت لياليه بروحانيات خاصة وأعمال درامية تجمع العائلة أمام الشاشة، أصبح الآن ساحة تُعرض فيها قضايا اجتماعية شائكة بمسلسلات رمضان 2024 بأسلوب جريء يتجاوز حدود الحياء في كثير من الأحيان.
لم أملك هذا العام متسعًا من الوقت لمتابعة أبرز المسلسلات الرمضانية، لكنني التقطت بعض المشاهد عبر «ريلز» مواقع التواصل ويوتيوب. ما شاهدته في دراما رمضان لم يكن مجرد تطور درامي، بل كان صدمة حقيقية، وجوه مألوفة، نجوم كبار، ولكن الكلمات خرجت من أفواههم فجَّة وصريحة، بلا كسوف أو مواربة، كأن الحياء بات رفاهية في حواراتهم.
دراما رمضان 2025 بين الجرأة والابتكار
لو عدنا بالزمن إلى رمضان قبل 20 عامًا، سنجد فرقًا شاسعًا. في رمضان 2004، قدَّمت الشاشات أعمالًا خالدة مثل «عباس الأبيض في اليوم الأسود»، «أحلام عادية»، «الليل وآخره»، و«أماكن في القلب». وكانت تلك الأعمال تطرح قضايا اجتماعية بعمق وذكاء، دون أن تفقد احترامها للمشاهد، ولم نسمع ألفاظًا تخدش الأذن، ولم نشاهد مشاهد تُثير الخجل وسط العائلة.
اليوم، يبدو أن الدراما الرمضانية باتت مرهونًة بمدى الجرأة في الطرح، وكأن العمق الدرامي أصبح أمرًا ثانويًّا، نحن لا نرفض مناقشة القضايا الحساسة، بل الدراما مرآة للمجتمع، ولكن هل من الضروري أن تنكسر المرآة لتعكس الواقع؟
قد يقول البعض إن الزمن تغيَّر، والجمهور بات أكثر انفتاحًا، لكن يبقى السؤال: هل الانفتاح يعني التخلي عن الرقي في الطرح؟ هل نحتاج إلى صدمة لنصل إلى قلوب المشاهدين، أم أن طريقًا آخر أكثر احترامًا وذكاءً للوصول إليهم؟ على الرغم من ذلك، سيظل رمضان شهرًا له هيبته، ولن يبقى في ذاكرة الجمهور سوى الأعمال التي جمعت بين القوة الدرامية والاحترام.. تمامًا كما فعلت روائع الماضي.
وهذا العام يشهد ازدحام الدراما الرمضانية بالأعمال التي تُبرز دائمًا بعض المسلسلات التي تترك أثرًا حقيقيًّا في وجدان المشاهد. هذا العام، برزت أعمال عدة أثارت الجدل وحصلت على الأكثر مشاهدة، وأخرى حفرت لنفسها مكانًا في القلوب، ما بين الكوميديا الساخرة والقضايا الاجتماعية العميقة. دعونا نبحر في أبرز هذه الأعمال بنظرة نقدية.
أشغال شقة جدًا.. كوميديا اجتماعية بلمسات عبقرية من الواقع
هذا العمل لم يكتفِ بتقديم الكوميديا التقليدية، بل حمل في طيَّاته رسائل اجتماعية مغلفة بخفة دم طبيعية. نجم العمل مصطفى غريب، في دور «عربي»، خطف الأنظار بأسلوب يجعل من المستحيل أن يُقدَّم في المستقبل دور «السنيد» مرة أخرى. أداؤه كشف عن نجم كوميدي قادم بسرعة صاروخية، ويستحق عملًا منفصلًا يحمل اسم «مغامرات عربي» عملًا سيكون بلا شك ضربة فنية إن حدث.
ولا يمكن تجاهل نجم الكوميديا الخلوق هشام ماجد الذي فضَّل إبراز وجوه جديدة بدلًا من احتكار البطولة، هذا الإيثار الفني يؤكد أنه ليس فقط نجمًا موهوبًا، بل قائدًا ومبدعًا يُعطي الفرصة لجيل جديد.
80 باكو.. كوميديا الشقاء وحكايات بنت البلد
في حواري مصر الضيقة، حيث تعبق رائحة الحياة اليومية، يأخذنا «٨٠ باكو» إلى عالم بسطاء مصر، بأسلوب يجمع بين الكوميديا والتراجيديا الاجتماعية. «هدى المفتي» تألقت في دور «بوسي»، بنت البلد المكافحة، الكوافيرة التي تحمل قلبًا أبيض وروحًا طيبة، تعطي بلا انتظار مقابل، ما جعل الشخصية تمثل كل فتاة مصرية تسعى لحياة كريمة.
تألقت بجوارها رحمة أحمد ودنيا سامي بأداء سلس وطبيعي، في حين خطفت انتصار الأضواء كعادتها، إنها فاكهة دراما رمضان بلا منازع، من «أشغال شقة» إلى «80 باكو»، إذ تتحول بعفويتها إلى «رمانة الميزان» التي تخلق التوازن بين الضحك والموقف.
ولاد الشمس.. دراما إنسانية تهز القلوب وصرخة من قلب الملاجئ
ربما هذا العمل هو الأعمق والأكثر تأثيرًا بين أعمال الموسم، مستندًا إلى قصة حقيقية، يفتح المسلسل جرحًا إنسانيًا طالما حاول المجتمع التستر عليه. «ولاد الشمس» يعرض حياة أطفال الملاجئ - أولئك الذين تخلَّى عنهم آباؤهم لأسباب مختلفة: إنكار نسب، صراعات أسرية، أو أنانية قاتلة. ويضع العمل المشاهد في مواجهة قاسية مع السؤال: ما ذنب الطفل في خطايا الكبار؟
ببراعة درامية يكشف المسلسل كيف يصبح المشرفون في دور الأيتام هم «الآباء البدلاء»، وكيف يحمل الأطفال بداخلهم جروحًا لا تندمل. العمل لا يسعى لاستدرار الشفقة، بل يُجبرنا على مواجهة الحقيقة، لعلَّنا نستيقظ وندرك أن هؤلاء الأطفال يستحقون حياة كريمة، تمامًا كأبنائنا.
شخصيًّا، أجد هذا المسلسل قد أعادني إلى ذكريات مؤلمة. لطالما كنت أزور دور الأيتام، أبحث عن دفء أمومة لم يكتمل. وكنت أرى في عيونهم عطشًا للحب والاحتواء، وعندما كنت أتعلق بطفل، كان يختفي فجأة، فقد تبنته أسرة، أو تكفَّلت به يد خير. كنت أفرح له، لكن قلبي يتمزق لفقدانه.
في إحدى زياراتي لدار أيتام للبنين بمدينة المستقبل بالإسماعيلية، منعني والدي من الاقتراب. كان يرى أن الصبية قد يكونون خطرًا عليَّ، لكنني كنت أراهم أطفالًا فقدوا كل شيء. أردت تعليمهم الإنجليزية، مجانًا، فقط لأجلس بينهم وأستمع لأرواحهم المكسورة.
أتذكر حديثي مع صبي لم يتجاوز الثالثة عشرة، قال لي بحزن هزني حتى اليوم: «هكون كويس ليه؟ مادام معنديش لا أب ولا أم. أنا ضايع يا أبله. لما بعرف إني لقيط، الحياة بتبقى كابوس.. ليتها تنتهي».
هذا المشهد لم يكن مشهدًا دراميًّا كان واقعًا حيًّا، يصرخ بصوت طفل حقيقي، حين نشاهد عملًا فنيًّا يدَّعي أن هذه الأحداث مجرد خيال درامي، علينا أن ندرك أنه يخدعنا. هذه قصص حقيقية، قاسية، حملتها الدراما على أكتافها فقط لتدق جرس الإنذار في عقولنا وقلوبنا.
«النص».. النشّال الذي صار بطلًا شعبيًّا من قلب الشارع المصري
«النص» لم يكن فقط عملًا كوميديًّا عابرًا، بل حكاية مملوءة بالتناقضات والعمق الإنساني. ويتناول مسلسل النص قصة عبد العزيز النص النشّال الذي لقَّبه صبيانه بـ«المعلم»، وبدأ رحلته في النشل، ثم حوَّل مهاراته لخدمة المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي. القصة تكشف ببراعة كيف يمكن لإنسان بسيط، يعيش على الهامش، أن يتحول إلى بطل شعبي على الرغم من ماضيه الملطّخ.
المبدع أحمد أمين قدَّم أداءً تلقائيًّا جعل الشخصية تبدو قريبة من القلب، يعزِّزها وجود ممثلين بارعين مثل حمزة العيلي الذي أثبت من جديد أنه ممثل استثنائي بقدرته على التلون مع أدواره، وأسماء أبو اليزيد التي أضافت رشاقة وحيوية للدور. وكذلك أضاء العمل بمشاركة وجوه جديدة قدّمها أحمد أمين في اكتشاف لافت، ليصبح «النص» عملًا متكاملًا بين خفة الظل والدراما التي تلمس القلب.
«المداح».. رحلة روحية في موسمها الأخير؟
في جزئه الأخير، قدَّم حمادة هلال واحدًا من أنضج أدواره في مسيرته، «المداح» مزج بين الروحانيات والتشويق، وحافظ على خطه المتميز في استكشاف الصراع بين الخير والشر.
ومع أن العمل حمل مشاهد قوية وحبكة مثيرة، فإنني أراه بمنزلة «محطة أخيرة» للنجم حمادة هلال في هذا الدور. وبعد تقديمه لهذا الأداء المتكامل، أتمنى أن يتجه العام المقبل نحو عمل جديد يبرز إمكانياته الفنية بإبداع مختلف، بعيدًا عن سلسلة «المداح» التي قد تكون استُهلكت معظم أوراقها.
دراما رمضان 2025.. ماذا سيبقى في الذاكرة؟
هذا العام، أثبتت الدراما أن الكوميديا ليست فقط للضحك، وأن القصص الحقيقية لا تحتاج إلى مبالغات لتُبهر الجمهور. «النص» أعاد تقديم البطل الشعبي من زاوية جديدة، «أشغال شقة جدًا» قدَّم كوميديا قريبة من القلب، «80 باكو» روى حكاية بنت البلد بروح مرحة، و«المداح» اختتم رحلته الروحية بلمسة درامية قوية.
قد تختلف الأذواق، لكن يظل هذا الموسم قدَّم لنا وجوهًا جديدة، وحكايات لامستنا، وضحكات خرجت من القلب. دراما رمضان 2025 لم تكن فقط أعمالًا درامية بل كانت تعبيرًا عن حياتنا اليومية بحلوها ومُرِّها. قد تختلف آراؤنا في جودة الأعمال، لكن لا يمكننا إنكار أن دراما هذا العام لم تتركنا على الحياد.. بل دفعتنا للتفكير.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.