دراسة تحليلية لقصائد الشاعر عبد الرحمن بن درهم بقلم بشرى الشمري

اسمه ونسبه وحياته

هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد آل درهم، ولد سنة 1873م، كان إمامًا وخطيبًا وقاضيًا كذلك مثلما كان والده أول قاضٍ شرعي في دولة قطر.

برز في الأدب والشعر إلا أن -وبحسب ما ذُكر عنه- كثيرًا من أشعاره لم تحفظ.

تلقى علمه من والده أولًا ثم ارتحل إلى الرياض ودرس على يد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، وجلس هناك عامًا كاملًا تلقى فيه علوم النحو والعقائد والفرائض والفقه، ثم عاد لقطر وشغل منصب قاضي قطر الشرعي، واشتغل أيضًا بتجارة اللؤلؤ.

كان زاهدًا، شديدًا في تطبيق تعاليم وأصول الدين الإسلامي.

ذُكرت بعض أشعاره في كتاب نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار، وأيضًا في كتاب وميض البرق للباحث علي الفياض.

يقول الدكتور ربيعة بن صباح الكواري، واصفًا شخصيته: "عُرف عن الشيخ (ابن درهم) شخصيته المتماسكة وخصاله الحميدة، وكان مثالًا طيبًا للإيمان الصادق واستقامة السيرة وكرم الخُلق وحسن المعشر وطيب النفس، كما كان يجمع إلى ذلك صفات علمية لعل أهمها: الصدق والأمانة والدقة وسعة المعرفة مع تواضع جم وحب لأهل العلم والأدب وإكرام لهم".

وذكر في معجم البابطين عن شاعريته "يدور ما أتيح من شعره حول المكاتبات والمطارحات الشعرية الإخوانية مضمنًا ذلك مدحه لمن يتوجه إليهم بمثل هذه المكاتبات، يميل إلى البث والشكوى، ويتجه إلى استخلاص الحكم والاعتبار، وله شعر في الرثاء فيه يبدو تأثره بأسلافه من شعراء الرثاء، متوسط النفس الشعري، تتسم لغته بالطواعية، وخياله نشيط.

ومن قراءاتي لأشعاره التي وجدتها رأيت أنها في المجمل تكون على شكل مراسلات ومكاتبات مع صديق واحد له، إما في مدحه أو بث شكوى أو عتاب له، أو قصيدة كتبها في رثاء هذا الصديق بعد وفاته، وهو يتبع المنهج الشعري التقليدي الكلاسيكي، متأثرًا بالشعراء القدامى في النظم، وأيضًا يتضح ورعه وتدينه في نظمه للقصائد".

توفي رحمه الله تعالى في سنة 1943م. مخلفًا إرثًا أدبيًّا عظيمًا.

اقرأ أيضًا: الفخر في الأدب الجاهلي "دراسة موضوعية لشعر الفخر عند قيس بن الخطيم"

1- قصيدة (خذ من زمانك ما صفا)

خذ من زمانك ما صفا ... واقنع هديت بما كفى

واعلم بأنك لن تجد ... خلًّا يدوم على الصفا

كلا ولن تر صاحبًا ... فيما أهمك مسعفا

وإذا أخو ثقة رأيـ ... ت الود منه تكلفا

فتسلَّ عنه ولا تكن ... متحزنًا متأسفا

وإذا المحب رأيته ... متوددًا متلطفا

فاشددْ به عقد الودا ... دِ وكن له مستعطفا

كأخي الفضائل والتقى ... بيت المروءة والوفا

ألف المكارم مذ نشا ... وأشاد منها ما عفى

لكنه قد سامني ... هجرًا بصبري أجحفا

يا أيها الخل الذي ... ما زال قط ولا هفا

ما ذنب مملوك لكم ... أسقيته كأس الجفا

إن كان عن ذنب فإني ... قد عهدتك منصفا

تالله حلْفةُ صادق ... في الجهر مني والخفا

ما لذّ لي من بعدكم ... نومٌ وعيشي ما صفا

والقلب بعد فراقكم ... أضحى جوًى متلهفا

فإلى متى هذا الصدود ... إلى متى هذا الجفا؟

ما كان ضرك لو كتبـ ... ـتَ إلى محبك أحرفا؟

الموضوع العام للقصيدة العتاب، كتبها في عتابه لصديقه عبد الله بن الخاطر حين طال الزمن ولم يكاتبه، إذ يقول هو عن هذا: وكان إذا انتقل في أيام الشتاء إلى البرية يتعاهدني بالمكاتبة فوافق أنه غفل عن ذلك مدة ولم تكن عادته فأهمّني ذلك.

كُتبتْ هذه القصيدة على بحر مجزوء الكامل، واسم القصيدة مأخوذ من الشطر الأول في البيت الأول، وقد بدأت بفعل أمر (خذ) وهو أسلوب إنشائي، يفيد استخدام فعل الأمر بأنه يصلح للحاضر والمستقبل ويدل على دوام الحدث، حيث يأمر بأخذ النصيحة التي سيتلوها على المستمع، وهو دال على المقصد من الأبيات وبالحالة الانفعالية للشاعر ورغبته في النصح والإرشاد.

في البيت الأول يقول:

خذ من زمانك ما صفا    واقنع هديت بما كفى

بدأ الشاعر قصيدته في شطر (خذ من زمانك ما صفا) ويتضح تأثر الشاعر بالشعراء القدامى في بدء القصيدة بشطر مكرر ومن ثم بناء قصيدته عليه، وهذا معمول به كثيرًا في الشعر العربي، فالأحنف العكبري في العصر العباسي له قصيدة مطلعها:

خذ من زمانك ما صفا        ومن الأحبة من عفا

والشاعر ديك الجن وهو من العصر العباسي أيضًا، يقول في قصيدة له:

خذ من زمانك ما صفا      ودع الذي فيه الكدر

والشواهد في هذا التكرار عند الشعراء كثيرة، منها شطر (ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة) التي استخدمها مالك ابن الريب في مرثيته الشهيرة،

أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً      بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا

واستخدمها أيضًا جميل بثينة

أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً        بِوادي القُرى إِنّي إِذَن لَسَعيدُ

وكل منهما وظف الشطر في بناء القصيدة بما يلائم المقصد والمعنى الذي يرميان إليه، والأمثلة كثيرة.

فهو شطر يبدأ به الشاعر ويتهيأ لاستكمال ما يليه بتعبير وجداني أو حكمة أو نصيحة يصيغها الشاعر حسب الموقف، وهذا ما فعله شاعرنا هنا إذ أكمل الشطر بقوله: "واقنع هديت بما كفى"، فيقدم الشاعر نصيحته حول القناعة بما جاد به الزمان عليك وصفا أمره لك، وجملة -هديت- هي اعتراضية هنا، وهي دعاء باهتدائك لهذه القناعة التي يأمل الشاعر أن تصل إليها.

ثم يقول في البيت التالي:

واعلم بأنك لن تجد    خلا يدوم على الصفا

وهو أيضًا يبدأ بفعل أمر تنبيهًا وإكمالًا لحكمته التي بدأها في البيت الأول، إذ يوظف معنى الحكمة المتداولة الشهيرة (صديق اليوم عدو الغد)، ثم يعاود التأكيد على ما ذهب إليه في البيت الثالث إذ يقول:

كلا ولن ترَ صاحبًا    فيما أهمّك مُسعفا

إذ يلاحظ وصول الشاعر إلى أشد درجات اليقين من تغير أحوال وأهواء الناس وعدم دوام الحال باستخدامه (لن) الجازمة التي تفيد نفي الحصول في المضارع والمستقبل، بأنك لن تجد من يخفف عنك همك ويكون مسعفًا لك حال احتياجك لوجوده.

وهو نفي يوحي بتشاؤم الشاعر عما يجود به الزمان وما يلاقيه من الناس من جحود أوصله إلى هذه القناعة.

ثم يقول:

وإذ أخو ثقة رأيت الود منه تكلفا

فتسل عنه ولا تكن متحزنًا متأسفا

وهو إعادة توظيف معانٍ رائعة تضمنها بيت الشافعي رحمه الله في قوله:

إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا    فدعه ولا تكثر عليه التأسفا.

إلا أن شاعرنا لا يتوقف عند الصديق المتغير المتكلف، بل ينتقل بعد ذلك إلى الصديق الودود اللطيف، وهو انتقال من الضد إلى الضد بغية اكتمال الصورة البيانية والبلاغية والواقعية كذلك إذ يقول:

وإذا المحب رأيته متوددًا متلطفا

فاشدد به عقد الوداد وكن له مستعطفا

وهو يحث هنا على التمسك بالصديق الوفي المحب الذي يشد أزر صديقه ويتلطف به، فالدنيا وإن لم تجُد بصديق يصفو لك دومًا فهي لا تخلو من وجوده أيضًا وإن كان نادرًا.

ثم يعدد هذه الصفات، إذ يقول:

كأخي الفضائل والتّقى     بيت المروءة والوفا

ألِفَ المكارم مذ نشا     وأشاد منها ما عفا

يُفصّل هنا في مواصفات هذا الصديق الذي يجب على المرء التمسك به، منها بأن يكون صاحب فضائل، تقيًّا، من بيت مروءة ووفاء، وصاحب مكارم، مستخدمًا أسلوب التشبيه فيقول في هذا المعنى: اتخذ صديقًا يشبه صديقي والذي نعته بالأخ للدلالة على قربه منه.

يستدرك الشاعر بعد ذلك بعد أن كان يخاطب الجمع إلى مخاطبة الخاصة والدخول إلى مكنونه هو وعتابه الخاص الموجه لصديقه، فيقول في استدراكه:

لكنّه قد سامني         هجرًا بصبري أجحفا

يا أيّها الخلُّ الذي      ما زلَّ قطُّ ولا هفا

يشرح بأن هذا الجفاء قد أتعبه وهذا الهجر قد زاده حزنًا، ثم ينادي صاحبه (يا أيها الخلّ) استخدم هنا أسلوب النداء للبعيد وهو إشارة إلى بُعد صديقه وغيابه عنه، ورغم ذلك يحفظ له الود إذ وصفه بأنه لم يزل ولم يهف برغم هجره له.

واستخدم مفردة (الخل) بدلًا من الصديق، ففي اللغة الخل هو من تخللت محبته الروح وهي أعمق في الدلالة على المحبة والصداقة التي جمعتهما معًا.

وهذا المعنى ذهب إليه بشار بن برد في قوله:

قد تخللت مسلك الروح مني    وبه سمي الخليل خليلا

ثم يذهب للتساؤل:

ما ذنب مملوكٍ لكم     أسقيته كأس الجفا؟

إن كان عن ذنبٍ فأنـ    ـتَ أحق مَنْ عنه عفا

أو لم يكن ذنبٌ فإنْـ      ـني قد عهدْتُك منصفا؟

 وهو أسلوب استفهامي استنكاري، إذ يتساءل مستنكرًا ما الذنب الذي اقترفه لكي يسقيه هذا الجفاء؟ ويجيب عن سؤاله الاستنكاري بتضادين أوضحا جمال المعنى في كلا البيتين، إذ يتقابل المعنيان بحيرة صاحب السؤال هل لي ذنب في هذا؟ فيجيب أنت أهل للعفو والتسامح، أم ليس لي ذنب؟ فيجيب أيضًا أنت المنصف العادل، في دلالة غاية في الجمال في توظيف الأساليب الفنية.

ويكمل هذا التسلسل في انتقاله من العام إلى الخاص في أبياته وفي المعاني التي يريد إيصالها، إذ بدأ في نصيحته للعامة ثم في تعدد الصفات الجيدة التي يجب على المرء أن يتلمسها في الصديق، ثم عتابه الخاص لصديقه، إلى أن يصل هنا إلى وصف حالته في هذا البعد وشقائه لجفاء صديقه له فيقول:

تاللهِ حلْفَةُ صادقٍ        في الجهر منّي والخفا

ما لذَّ لي من بعدكم      نومٌ وعيشي ما صفا

والقلب بعد فراقكم       أضحى جوًى متلهّف

وهو أسلوب قسم، إذ يقسم إنه كان صادقًا في مودته له في كل حالاته واستخدم التضاد (الجهر-الخفاء)، ويكمل قسمه بأنه حُرم من لذيذ النوم والعيش الهانئ من بعده، وحال قلبه في غيابه أصبح حزينًا متلهفًا من شدة الوجد.

ويختم قصيدته في هذه الأبيات التي تحمل رقة في العتاب وتلطفًا باختيار المعاني المناسبة التي تليق بمحبته لصديقه، فيقول:

فإلى متى هذا الصدو    دُ؟ إلى متى هذا الجَفا؟

ما كان ضرّك لو كتبـ     ـتَ إلى محبك أحرفا؟

ويصل الشاعر هنا إلى أقصى درجات العتاب في تساؤلاته عن مدة استمرار حاله هذه، وإلى متى يظل صاحبه في صدوده، فسيتنكر عدم مكاتبته هذه المدة، فيقول ما يضرك لو كتبت إليّ أحرفا؟ وهنا ما يذهب بنا إلى آخر مدى الشوق حتى إن المكلوم يرضا من محبوبه بالقليل وإن كانت تتمثل في أنه يستجدي أحرفًا بسيطة، وكأنه يقول إن أحرفًا قليلة منك كانت ستطفئ هذا الحزن والتلهف الذي أشعله غيابك في قلبي.

اقرأ أيضًا: قراءة في قصيدة 'إفريقيا ' للدكتور داود بن عبد الباقي

2- قصيدة سلام من المملوك

سلامٌ من المملوك ما لاح بارقُ    وما هلّ ودقُ الهاميات المواطرِ

وما اخضرَّ عودٌ أو ترنم طائرٌ     وفاح شذا تلك الرياض العواطر

أخي إن جفاني كلُّ خلٍّ وصاحبٍ    ومن لم يزل يرعاه قلبي وخاطري

لقد جمع الله المروءة والوفا     لماجدِ أعراقٍ زكيِّ العناصر

أخي همّةٍ تأبى لكل دنيَّةٍ        تقيٍّ نقيِّ العرض عفّ المآزر

له في العلا بيتٌ أشاد عماده     تراث جدودٍ كالبدور السّوافر

ولكنه قد زانه وبنى له        من المجد أركان العلا والمفاخر

قصيدة على البحر الطويل، اسمها مأخوذ من أول كلمتين من الشطر الأول وهي جملة اسمية، والقاعدة في اللغة تقول: إن الجملة الاسمية تفيد الدوام والثبات، يقول الدكتور عبد العزيز عتيق: "والجملة الاسمية تفيد بأصل وضعها ثبوت شيء لشيء ليس غير"، والملاحظ أن تسمية القصائد أتت لاحقا غالبًا حسب أول شطر في القصيدة.

وموضوع القصيدة هذه يدور في مدح صاحبه وتعدد صفاته، وقيل إنه أنشدها في صاحبه ابن خاطر.

يقول في البيت الأول:

 سلامٌ من المملوك ما لاح بارقُ    وما هلّ ودقُ الهاميات المواطرِ

بدأ القصيدة بالتحية والسلام، ثم خص هذا السلام بأنه خارج من المملوك، ويتضح استخدامه لمفردة مملوك في قصيدته هذه وقصيدته السابقة التي كانت تشير بشكل واضح إلى نفسه في قوله: (ما ذنب مملوك لكم أسقيته كأس الجفا)، فإذا أسقطنا أيضا كلمة المملوك على نفسه (الشاعر) فيكون السلام منه خاصة، وتدل استخدامه لكلمة المملوك على تواضع منه وإمعانًا في توضيح ارتباطه الكبير بالمخاطب حد امتلاكه له.

ثم يحدد في الشطر الثاني للبيت متى يكون السلام (ما لاح بارق وما هل ودق الهاميات المواطر)، أي ما ظهر وبان (السحاب المحمل بالبرق) وما انهمر (الودق) أي المطر الغزير، كما في قوله تعالى في سورة الروم: {فترى الودق يخرج من خلاله} أي المطر، والهاميات المواطر هو وصف للسحاب الذي يحمل هذا المطر وقد استخدم نزار قباني هذا الوصف في قوله (تلك الدموع الهاميات أحبها). 

ثم يقول:

وما اخضرَّ عودٌ أو ترنم طائرٌ     وفاح شذا تلك الرياض العواطر

ويكمل هنا في تراتبية جميلة، ليكمل الصورة التي رسمها في المشهد، إذ بعد المطر تخضر الأرض وتزهر وينشد الطير ويفوح شذا الجنان بعطور الأزهار التي تفرح باعتناقها بالمطر المنهمر.

ثم يكمل:

أخي إن جفاني كلُّ خلٍّ وصاحبٍ    ومن لم يزل يرعاه قلبي وخاطري

ينتقل هنا إلى صورة أخرى أكثر خصوصية والملاحظ في انتقاله هو تشبيه الصورة الشعرية السابقة بما سيأتي لاحقًا لها وهي في هذا البيت، فما يحدث في الطبيعة يتمثل بصورة أخيه، إذ يبدأ بمفردة (أخي) موجهًا خطابه لصاحبه ولقربه منه لقبه بالأخ متصلة بياء الملكية إشارة لقربه واتصاله بهذا الصديق، واصفًا هذا الأخ: (إن جفاني كل خل وصاحب ومن لم يزل يرعاه قلبي وخاطري).

"إن" هنا نافية لا عمل لها، والمعنى يكون ما جفاني الخل والصاحب، واستخدم مترادفين للتعبير هنا، لإبراز القيمة المعنوية لكلا اللفظين بالرغم من أنهما ظاهريًّا يقصد بهما الصديق، فالخل مشتق من الخلة وهي المودة والمحبة التي تتخل القلب، والصاحب مشتق من الصحبة والمعاشرة.

وهو ما يؤكده الشطر الثاني الذي يبدو نتيجة إذ إن الصديق لم يجفه وبالتالي لم يزل قلبه يرعاه.

ويكمل في قوله:

لقد جمع الله المروءة والوفا     لماجدِ أعراقٍ زكيِّ العناصر

يعدد صفات الصديق هنا، بأن الله جمع به المروءة والوفاء وهذا الصديق في الأصل من عرق ناصع زكي، للتعبير عن الطهارة والنقاء فلا تشوبه شائبة.

يتبع ذلك قوله:

أخي همّةٍ تأبى لكل دنيَّةٍ        تقيٍّ نقيِّ العرض عفّ المآزر

يعود لأسلوب المخاطبة (أخي)، ويكمل في وصف صديقه بأجمل الأوصاف، فيقول عنه إنه ذو همّة أي صاحب عزم قوي يرفض الدنايا، فهو التقي النقي.

والمآزر مفردها مئزر وهي ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن كناية هنا عن طهارة العِرْض وطيب الأصل والعفاف.

ويختم قصيدته في مدح صديقه فيقول:

له في العلا بيتٌ أشاد عماده     تراث جدودٍ كالبدور السّوافر

ولكنه قد زانه وبنى له        من المجد أركان العلا والمفاخر

تقديم الجار والمجرور دلالة على أن العلا مختص له وحده، فهو من شيّد عماد بيت لا يصل إليه أحد عداه، وزيادة على هذا المدح فيقول إن تراث جدوده الذي شبههم كالأقمار "السوافر" أي الواضحة المنكشفة الوضاءة، وهذا الوصف استخدمه الشاعر الجزائري عبد القادر المسعدي في قوله (تسيرُ فيسري كالبدور السوافر).

ويستطرد في البيت الأخير، بأنه على الرغم من أنه ورث هذا المجد، فإنه أكمل في بنائه وأعلاه بمجده الخاص ولم يعتمد فقط على ما ورثه من أجداده، إذ إن المجد قد يورث فقط، ولكن صاحبه أكمل ما بدأ به جدوده من مجد وفخر، تأكيدًا في مدح صفاته الشخصية.

اقرأ أيضًا: قصيدة "تُنسى كأنك لم تكن" لـ محمود درويش.. من الواقعية إلى الرومانسية

3- أشكو إلى الله

فارقتكم وبقلبي من فراقكمُ         ما ليس يوصف من همٍّ ومن حَزَنِ

أشكو إلى الله ما بالقلب من ألمٍ   فهو المرجّى لكشف الضرّ والمحن

كيف السلوُّ وعيني لا يلذُّ لها     نومٌ وقلبيَ لا يخلو من الشجن؟

أخذ عنوان القصيدة من الشطر الأول في البيت الثاني، وهي جملة فعلية يتحدث بها عن نفسه وشكواه لله، ما يعطي انطباعًا عن القصيدة وموضوعها الذي يدور في الشكوى والفراق والحنين، وهي مكتوبة على البحر البسيط، القصيدة قصيرة من 3 أبيات، وكما أشرنا سابقًا لم يدون كثيرًا من أشعاره وقد تكون هذه القصيدة طويلة ولم يحفظ منها سوى هذه الأبيات.

يقول في البيت الأول:

فارقتكم وبقلبي من فراقكمُ         ما ليس يوصف من همٍّ ومن حَزَنِ

يبدأ القصيدة بفعل ماضٍ وهو ما يدل على حدوث الشيء في زمن مضى، إلا أنه حين يكمل البيت يقول إن ما بقلبه من هذا الفراق من هم وحزن "ليس يوصف"، فاستخدم الفعل المضارع دلالة على استمرار الشعور بالحزن وديمومته، وعلى الرغم من أن الحدث قد مضى، فإن آثاره باقية وتتجدد، فيقول: على الرغم من أن فراقكم لي حدث منذ زمن فإن آثاره لا تزال حاضرة في قلبي.

ثم يكمل:

أشكو إلى الله ما بالقلب من ألمٍ   فهو المرجّى لكشف الضرّ والمحن

يقول هنا إن كل ما حدث لي من ألم بسببكم لا أبثه وأشكوه إلا لله، فهو العالم بما حل بي وهو الكاشف لكل ضر سببه فراقكم لي، وهو ما يشير إ لى إيمان الشاعر وتوكله على الله فيما يحزنه.

وفي هذا المعنى يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:

لله أشكو ومن غير الكريم له    حكمٌ على الناسِ والمكتوبِ والقدرِ

ثم يتساءل مستنكرًا في البيت الأخير:

كيف السلوُّ وعيني لا يلذُّ لها     نومٌ وقلبيَ لا يخلو من الشجن؟

والسلو أي النسيان، وطيب النفس بعد فراق الشيء، ويعني بأنه لو أراد النسيان فعينه لا تنام وقلبه لا يخلو من الحزن.

وفي بلاغة استخدام السؤال الاستنكاري لا ينتظر السائل أي إجابة، بل هو يتعجب من أنه لو أراد النوم فلن يحصل عليه وحاله هكذا، وهو يعبر عن النفي والإنكار في حصول النوم.

اقرأ أيضًا: تحليل مقطوعة "عتب ما للخيال" لأبي العتاهية

4- قصيدة أعينيّ جودا

أعيني جودا بالدموع السواكب      فإن بكاء الإلف أعظم واجب

ولا تبخلا بالدمع لو كان من دم    على طاهر الأخلاق عف المذاهب

فلست بباك بعده فقد هالك         ولا جزع من حادثات النوائب

إلى الله أشكو ما دهى من مصيبة   ونازلة من موجعات المصائب

مصيبة خل أورث القلب فقده        لهيب جوى بين الحشى والترائب

مصيبة ذي الإحسان والفضل والتقى   حليف الندى والمجد سامي المناقب

تقي نقي عابد متبتل               تبارك من أولاه خير المواهب

محب لأهل حرب لضدهم           مهين لأرباب الخنا والمعائب

فلله مقتول مضى لسبيله          نعم الفتى عند الخطوب الكوارب

 أبو الفضل عبد الله أعني ابن خاطر   أخي إن جفاني كل خل وصاحب

أخو الصدق مأمون السريرة من سمت    مكارمه أوج النجوم الثواقب

 بلوت بني الأيام طرًّا فلم أجد             صديقًا سواه مسعدًا في النوائب

 فأصفيته مني الوداد فلم يشب          صفاء ودادي بالقذى والشوائب

فأصبحت موتورًا أعزى لفقده           أعلل نفسي بالأماني الكواذب

  لئن ذهبت أيامه الغر وانقضت         فما الحزن من قلبي عليه بذاهب

  بنفسي أخًا لم يصف لي العيش بعده    ولا ساغ لي يومًا لذيذ المشارب

خليلي ما ذاك الهمام بعائد             علينا ولا ذاك الغمام بساكب

  فما أوحش الدنيا عليّ وأهلها        غداة ثوى في الترب بدر الغياهب

فلله أياما تقضت بقربه              فعادت كأحلام الرقاد والكواذب

إذا خطرت يومًا على القلب خطرة     بتذكار هاتيك الليالي الذواهب

تكدرت الدنيا علي وأوحشت          مسالكها عندي وضاقت مذاهبي

فلا غرو أني قد فجعت بسيد        كريم على السمت الجميل مواظب

بعيد المدى بدر الدجى معدن الوفا    كسوب الثنا والحمد عف المكاسب

حسيب كريم الذات والأصل ماجد      جواد إذا انسدت وجوه المطالب

له في أثيل المجد بيت مشيد        ومن رتب الإحسان أعلى المراتب

له خلق سهل ونفس أبية           وكف تضاهى غاديات السحائب

له مجلس ينتابه كل طارق         مناخ لأضياف الشتاء السواغب

همام تحلى بالديانة والتقى         ورفض الدنايا وابتذال الرغائب

عزيز جوار أريحي مهذب          يعد اصطناع العرف أسبى المكاسر

وكم من سجايا لابن خاطر لم يكد    يحيط بها عدًّا يراع لكاتب

فإن يكُ عبد الله أقفر ربعه          فأصبح ميدان الصبا والجنائب

وأقصده سهم من الموت صائب     قضاء مليك لا يغالب غالب

فما مات حتى فاق مجدًا وسؤددًا     وشيد بنيان العلى والمناقب

وأعظم فينا فقده ومصابه            فكل فتى يومًا لإحدى النوائب

وأبقى من الذكر الجميل مآثرًا        منارًا لطلاب العلى والمراتب

حيا ما حيا ذا رفعة وجلالة         وأودى جميل الذكر عالي المناصب

عليه ربى الرحمن ما ذر شارق      وما لاح برق في خلال السحائب

ولا زال مصحوبًا بعفو ورحمة        ومغفرة من فضل جزل المواهب

وأني لأرجو الله جبر مصيبتي       وتفريج هم صار ضرب لازب

واختم نظمي بالصلاة مسلمًا       على سيد السادات بدر الغياهب

محمد الهادي الشفيع وآله        وأصحابه الغر الكرام الأطايب

القصيدة على بحر الطويل، يتناول بها الشاعر موضوع الرثاء، وهو كان يرثي بها صاحبه ورفيق دربه، والقصيدة طويلة وقد تكون أكثر قصائده طولًا، وهو ما يوضح حالة الحزن والتفجع الذي كان يعانيه لفقد صديقه الذي كثيرًا ما كان يكاتبه ويأنس بوجوده وهو الشيخ عبد الله آل خاطر رحمهم الله جميعًا.

إذ قال في كتابه متحدثًا عنه: "كان بيني وبينه مودة أكيدة دينية وصحبة أدبية لا أكاد آنس إلا بمجالسته، ولا أطمئن إلا بحاضرته، وكنت في ذلك الوقت مشتغلًا بطلب المعيشة، وأتأخر عن زيارته في بعض الأيام، فإذا زرته نسيت ما نابني من أمر معيشتي".

يقول في البيت الأول والثاني:

أعيني جودا بالدموع السواكب      فإن بكاء الإلف أعظم واجب

 ولا تبخلا بالدمع لو كان من دم    على طاهر الأخلاق عف المذاهب

يبدأ في البيت الأول بالشطر (أعينيّ جودا بالدموع السواكب) وهي بداية متداولة بكثرة في قصائد الرثاء، منها قصيدة عدي بن ربيعة في رثاء أخيه وائل، في قوله:

أعينيّ جودا بالدموع السوافح    على فارس الفرسان في كل صافح

وقول وردة اليازجي:

أعينيّ جودا بالدموع السواكب    وفيضي دماءً بعد فقد الحبائب

مع تغير الشطر الثاني الذي أكمله شاعرنا بقوله "فإن بكاء الإلف أعظم واجب"

استخدم أسلوب التوكيد (إن) دلالة على وجوب البكاء على المحبوب (الإلف)، بل هو أعظم واجب يُقدم، ثم يخاطب عينيه وينهاهما عن البخل بالدمع وإن كان دمًا، دلالة على نضوب العين من الدموع من كثرة البكاء على فقيده طاهر الأخلاق وصاحب العفاف.

ثم يكمل:

فلست بباكٍ بعده فقد هالك         ولا جزع من حادثات النوائب

ثم ينفي أنه لن يفجع بعد هذه الفاجعة لعظمة ما أصابه من هذا الفقد، إذ لا أحد يستحق مثل هذا الحزن بعده.

كثيرًا ما يبالغ الشعراء في الرثاء في إظهار عظم الفاجعة من خلال المبالغة في مدح الفقيد وإعطائه القداسة الكاملة والتنزيه وتهويل أثر هذا الفقد، ربما للشعور بالذنب من أنه لم يعطه ما يستحقه من مديح في حياته، وهذه عادة الشعراء في الرثاء، ومحمود درويش حين سئل عن الرثاء قال: مديح تأخر عن موعده حياة كاملة.

ويكمل:

إلى الله أشكو ما دهى من مصيبة   ونازلة من موجعات المصائب

يوجه شكواه إلى الله في ما أصابه من فقد ومصيبة إذ صنفها من موجعات المصائب أي الأشد إيلامًا.

ثم يشرح ما المصيبة التي نزلت عليه فيقول:

مصيبة خل أورث القلب فقده        لهيب جوى بين الحشى والترائب

يصف هول فاجعته ومصيبته بأنها مصيبة صاحب أورث قلبي فقده، واستخدم "أورث" وكأنه يعني به أنه لا مجال للتنصل من هذه الفاجعة، إذ أنها كالميراث الذي ناله من حكم القدر، ثم يصور في الشطر الثاني (لهيب جوى بين الحشى والترائب) وكأن صاحبه هذا مدفون بمكانين لا مكان واحد، تحت الثرى وفي أحشائه أيضًا، إذ شبه الحشى باللحد المدفون به صاحبه وهو ثابت في داخله لن يمحى.

ثم يكمل قوله:

مصيبة ذي الإحسان والفضل والتقى   حليف الندى والمجد سامي المناقب

تقي نقي عابد متبتل               تبارك من أولاه خير المواهب

محب لأهل حرب لضدهم           مهين لأرباب الخنا والمعائب

يعدد مآثر هذا الصديق متعجبًا من جمعه لكل هذه الصفات الحسنة فتبارك من وهبه كل هذا.

ثم يقول في بلاغة المقابلة ووضوح المعنى وفي اكتمال الصورة المثالية الكاملة لصفات هذا الصديق، إنه يحب الشجاعة والبسالة في الحق وفي الوقت نفسه يحتقر كل أصحاب "الخنا" الفاحش من الكلام، "والمعائب" هي الذنوب والعيوب.

ويكمل رثاءه:

فلله مقتول مضى لسبيله          ونعم الفتى عند الخطوب الكوارب

قدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص بأنه مضى في سبيل الله لا لمكان آخر، وهو أهلٌ في وقت الكرب والخطب.

في كل الأبيات السابقة كان يعدد صفات هذا الصديق، إلى أن يصل إلى هذا البيت ويذكر اسمه صراحة، فيقول:

أبو الفضل عبد الله أعني ابن خاطر   أخي إن جفاني كل خل وصاحب

إذ يلقبه بأبي الفضل عبد الله، ثم يستدرك بأنه يعني في كلامه ابن خاطر، ويكمل مناداته (أخي)، وهو في هذا البيت بدأ بذكر لقبه، ثم اسمه، ثم عائلته، ثم موقعه منه وقربه الذي فضله على كل صاحب وخل.

ثم يقول:

أخو الصدق مأمون السريرة من سمت    مكارمه أوج النجوم الثواقب

يصفه بأنه أخو الصدق وهنا أضاف له صفة ملازمة له، وبأن مكارمه ومكانته مع النجوم المضيئة العالية في مكانتها لا يصل إليها أحد، الثواقب مفردها ثاقب كما في قوله تعالى في سورة الطارق: {والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب}، والنجم الثاقب هو "نجم في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم رجع إلى مكانه في السماء السابعة".

وفي وصفه لصديقه بوضعه في هذه المكانة العالية تشير إلى دقة لامتناهية، وجمالية رائعة جدًّا من الشاعر.

ثم يقول:

بلوت بني الأيام طرًّا فلم أجد             صديقًا سواه مسعدًا في النوائب

معنى بلوت أي خبرتهم وجربتهم ويقصد ببني الأيام أي الناس على اختلافهم، وهذا القول معروف قديمًا ومنه قول الشافعي:

بَـلَـوْتُ بَـنِـي الـدُّنْـيَـا فَلَمْ أَرَ فِيهِمُ      سِوَى مَنْ غَدَا وَالْبُخْلُ مِلْءُ إِهَابِهِ

وقول الأفوه الأودي:

بلوت الناس قرنًا بعد قرن     فلم أر غير خلاّبٍ وقالِ

وطرًّا بمعنى جميعًا، ومنه قول ابن الرومي:

يسهل القول إنها أحسن الأشْـ     ـياءِ طُرًّا ويعْسرُ التحديدُ

 وهو يعني أنني خبرت الناس جميعًا ولم أجد سواه صديقًا يسعد قلبي عند المصائب.

ثم يقول:

فأصفيته مني الوداد فلم يشب          صفاء ودادي بالقذى والشوائب

أي صافيته الوداد والمحبة ولم يخالطها أي شائبة أو قذارة، وهو أضاف لشيء محسوس (صفاء الوداد) شيء ملموس وهو الشوائب والقذارة.

ثم يكمل قوله:

فأصبحت موتورًا أعزى لفقده           أعلل نفسي بالأماني الكواذب

وهنا يتحدث عن كيف أصبحت حاله بعد فقده (أصبحت موتورًا) وموتورًا تعني منْ قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِ، فيقول إن الناس تأتي لتعزيني برحيله، وأنا أسلي نفسي بالأماني بأنه لم يرحل.

وما زال يصور هول فاجعته بفقد صديقه، إذ يشير إلى عدم تصديقه خبر موت صاحبه حتى وهو في موقف العزاء.

ثم يقول:

لئن ذهبت أيامه الغر وانقضت         فما الحزن من قلبي عليه بذاهب

  بنفسي أخًا لم يصف لي العيش بعده    ولا ساغ لي يومًا لذيذ المشارب

يكمل عزاءه لنفسه بقوله إنه لو ذهبت أيام هذا الصاحب فحزني عليه باقٍ في القلب لا يختفي، وإن العيش لا يصفى لي ولا يهنأ لي حتى في لذيذ الشرب.

ويقول:

خليلي ما ذاك الهمام بعائد             علينا ولا ذاك الغمام بساكب

وكعادة شعراء الجاهلية في استخدام كلمة (خليلي) بدأ الشاعر هذا البيت، وهو أسلوب نداء محذوف منه أداة النداء وهي (يا)، وخليليّ منادى، وهو يشبه نداء استغاثة بأن يعيناه على تحمل هذه الفاجعة، كقول كثيّر عزة:

خليليَّ هذا ربعُ عزّةَ فاعقلا     قلوصيكما، ثمّ ابكيا حيثُ حلَّت

وهذا الاستخدام موجود وبكثرة في الشعر العربي القديم، وشاعرنا هنا يطلب العون من صاحبيه إذ لا عودة لفقيده إليه.

ثم يستطرد:

فما أوحش الدنيا عليّ وأهلها        غداة ثوى في الترب بدر الغياهب

أن الدنيا أصبحت موحشة هي ومن عليها من الناس بعد أن ثوى صاحبي التراب (بدر الغياهب) حيث شبهه بالبدر الذي ينير ظلمة المكان ويبدد وحشته.

فلله أيامًا تقضت بقربه              فعادت كأحلام الرقاد والكواذب

يتحسر على أيام انقضت بقرب هذا الصديق ولن تعود وأصبحت كأحلام النائمين الكاذبة، وبلاغة استخدام (أحلام الرقاد الكواذب) في الفرق بين الرؤيا والحلم، فالحلم عادة لا يصدق على عكس الرؤيا فاستخدم الأقرب لحاله بأنه لو رآه في الحلم لن يتحقق.

ويكمل:

إذا خطرت يومًا على القلب خطرة     بتذكار هاتيك الليالي الذواهب

تكدرت الدنيا علي وأوحشت          مسالكها عندي وضاقت مذاهبي

فيقول وهو يوجه كلامه لفقيده إنه وإن أتيتَ بالبال في لحظة واحدة أتذكر بها الليالي الطويلة التي قضيتها معك والتي لن تعود، فتضيق بي الدنيا بكل دروبها أشد ضيق.

وهو ما زال هنا يصف حاله بعد الفقد بأن لن يكون له سوى الذكريات ترافقه وتوجعه كلما خطرت بباله ذكرى لياليه مع صديقه.

ثم يقول:

فلا غرو أني قد فجعت بسيد        كريم على السمت الجميل مواظب

بعيد المدى بدر الدجى معدن الوفا    كسوب الثنا والحمد عف المكاسب

حسيب كريم الذات والأصل ماجد      جواد إذا انسدت وجوه المطالب

يبرر في هذه الأبيات حزنه ويقول إنه لا عجب أنني فجعت به، ثم يعود ليكرر مزايا صاحبه، فيذكر أن سبب عدم تعجبه لاستحقاق هذا الصديق كل هذا التوجع فلا عجب لأنه الكريم الجميل البدر صاحب الوفاء والعفيف، كريم النسب، الجواد لكل من يطلبه حاجة.

ويكمل:

له في أثيل المجد بيت مشيد        ومن رتب الإحسان أعلى المراتب

له خلق سهل ونفس أبية           وكف تضاهى غاديات السحائب

له مجلس ينتابه كل طارق         مناخ لأضياف الشتاء السواغب

يتكرر في هذه الأبيات الثلاثة في بدايتها (له) وهي كما ذكرنا تدل على الاختصاص إذ لا يضاهيه أحد على ما بعدها، فله في أساس المجد بيت رتبته الإحسان وهي من مراتب الدين الثلاث بعد الإسلام والإيمان.

وهو ما يوضح بشدة ثقافة الشاعر العالية دينيًّا وأدبيًّا من خلال دقة اختيار الألفاظ المناسبة في كل بيت.

ثم يكمل له خلق لين ونفس لا ترضى بالذل ويد في عطائها تطاول السحب، وله أيضًا مجلس مفتوح لكل آتٍ في كل موسم وليس فقط ضيوف الشتاء المتعبين الجائعين، والسواغب يعني المجاعة كقوله تعالى: "أو إطعام في يوم ذي مسغبة".

ثم يقول في هذه الأبيات:

همام تحلى بالديانة والتقى         ورفض الدنايا وابتذال الرغائب

عزيز جوار أريحي مهذب          يعد اصطناع العرف أسبى المكاسر

وكم من سجايا لابن خاطر لم يكد    يحيط بها عدًّا يراع لكاتب

يكمل عد صفات صديقه بأنه سيد شجاع وذو دين وتقى، لا يقبل الابتذال والدنايا، يصنع المعروف في جيرانه، ثم يعمم كل هذه الصفات بأنه لو بقي يعددها لما استطاع قلم الكاتب أن يحيط بها جميعًا.

ويكمل:

فإن يكُ عبد الله أقفر ربعه          فأصبح ميدان الصبا والجنائب

مكان مقفر أي خالٍ من الناس، فيستطرد هنا بأن مكانه الذي لم يكن خاليًا يومًا أصبح الآن ميدانًا للرياح بمواسمها وهبوبها، والصبا هي الرياح المعتدلة من المشرق وسميت بالصبا لأنها ريح طيبة، والجنائب هي الرياح الهوجاء الجنوبية.

وكقول أبي تمام:

أميدان لهوى من أتاح لك البلى     فأصبحت ميدان الصبا والجنائب

ويتجلى الرضا بالقضاء والقدر عند الشاعر واستدراكه لموت صاحبه بأنه قضاء غالب من الله لا يمكن غلبه في قوله:

وأقصده سهم من الموت صائب     قضاء مليك لا يغالب غالب

ثم يقول:

فما مات حتى فاق مجدًا وسؤددًا     وشيد بنيان العلى والمناقب

أي أنه لم يمت إلا بعد أن فاق مجده كل مجد وكل فضائل، والسؤدد يعني المجد والشرف والسيادة.

فشبه الشرف والعزة بالبنيان الذي بقي يشيده في حياته كلها حتى علا على غيره ولم يصل إليه أحد، وكأنه هنا يعزي نفسه بموت صديقه بأنه حقق مجدًا وعزًّا وسيادة في حياته تليق به وحده.

وفي ختامه للقصيدة يقول:

وأني لأرجو الله جبر مصيبتي       وتفريج هم صار ضرب لازب

واختم نظمي بالصلاة مسلمًا       على سيد السادات بدر الغياهب

محمد الهادي الشفيع وآله        وأصحابه الغر الكرام الأطايب

ختم الشاعر قصيدته بدعوة الله لجبر مصابه وتفريج همه الذي نزل به لفقده صديقه، وقد جرت العادة عند بعض الشعراء وخاصة في شعر الرثاء بأن يكون آخر أبيات القصيدة هو الصلاة والسلام على النبي وطلب شفاعته، وقد تكون من أبسط ما يختم به الشاعر قصيدته، إلا أنها تحمل الختام الصادق النابع من القلب، يختم به تدفق الشعور الذي انسلّ في بداية القصيدة وأوصل القارئ إلى الختام الذي يليق بصدق الشعور وحرارته ويصف مدى توجع شاعره.

وهي تحمل دلالات تشير إلى ورع الشاعر وثقافته الدينية وتمسكه بالرجاء والأمل في الله تعالى، فيصمت عندها منتظرًا استجابة خالقه.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم سيد علي عبد الرشيد
بقلم سيد علي عبد الرشيد
بقلم سيد علي عبد الرشيد
بقلم سيد علي عبد الرشيد
بقلم سيد علي عبد الرشيد