على وقع نحيب الناي الآتي من تلك الرابية المنتقبة بسحابات الصيف أبحر عميقًا في تلك الذكريات البعيدة..
كان ممسكًا بسنبلة ذهبية يهش بها أفكاره كلما اقتربت منه فراشات حقل التفاح الواسع..
ابتعدت الأغنام وصوت أجراسهن يغيب في ذهنه الشارد وتركيزه المبعثر..
عيناه تتجهان إلى الأغنام لكنه في عالم آخر.. لاحت له فصول مدرسته التي غادرها.. وتلك الأحلام الوردية.. ربطة العنق ومسطرة كبيرة تستخدم في التخطيط المعماري كانا سهلاً ممتنعًا بالنسبة لمن لا يستطيع دفع ثمن الأحلام المخملية..
وفي عمق الماضي غطس من لا يجيد السباحة ولا التجديف فأخذته أمواج التمني إلى غمة لم يكن يرجوها ولا هو بناج منها..
حاولت الشمس أن ترسل من أشعتها بلورة نور لتطرق باب جفنه، لكنه كان يشخص ببصره ثم ينصرف بوجهه إلى الأسفل فتحجب قبعته المصنوعة من القش ضوء الشمس ووهج الحقيقة فلا يستفيق!
"أين هي الحقيقة؟"
لطالما كان هذا السؤال يؤرق الراعي وهو في خضم انفصامه عن الواقع.. كان يبحث عن إجابة لذلك السؤال الذي كاد يفتت روحه الضائعة في عالم آخر لا يمت لعالمه بصلة..
أين الحقيقة التي يجب أن يلتصق بها الراعي أهي حقيقة الروح أم الجسد.. فانتازيا الروح ومنطق العقل يشدانه كلا باتجاه معاكس!
احتضن ركبتيه وغفا قليلاً وكأنه شعر بزلزلة بسيطة لكنه لم يبالِ بما شعر به وبينما هو غارق في انفصامه، رفع رأسه ليجد نفسه واقفًا في إحدى الحدائق الركنية في أحد شوارع دولة تبدو من معالمها وملامح قاطنيها وثيابهم دولة أوروبية!
"يبدو أنه حلم" هكذا حدث نفسه في الوهلة الأولى محاولاً الاستيقاظ إلا أن صخب السيارات وضجيج المارة كان يدوي مسامعه!
وكلما حاول القيام بحركة بسيطة، كانت قدماه تقطعان آلاف الأمتار بخطوة واحدة.. خطوات سريعة وواسعة لا تتفق مع منطق ولا تتسق مع العادة!
الأمر أشبه بالخيال لكنه واقع وهو أقرب بوصفه إلى أحد المشاهد الهوليودية في فلم ممل ومفزع!
حاول الصراخ عاليًا على أمل أن تنفجر فقاعة الوهم التي سجن فيها وعلى أمل العودة إلى استرخاء المنطقية وراحة المعقول دون جدوى..
"هل أنا ميت؟"
تمتم وهو يحاول قرص جلده السحابي لكن محاولاته كانت تصطدم بقوة على حائط الحدث العبثي الغريب!
عاد إلى ركنه وجلس خائفًا مستجيرًا بزاوية خرساء ودكة خرسانية من ضياعه في دهاليز اللا معروف واللا مفهوم..
احتضن ركبتيه وكانت ضربات قلبه تدوي في مسامعه مزدوجة كأنه طبل يقرع لبدء حدث مهم..
كانت عيناه الوجلة تطيش في كل مكان في محاولة يائسة لاصطياد حقيقة طريدة أو تفسير بعيد لما يحدث..
وعلى بعد أمتار منه، أقبل رجلان يمشيان في يد أحدهم جهازًا حاسبًا آليًا وجلسا قريبًا منه على أحد كراسي الانتظار في انتظار باص على ما يبدو..
أحدهم كان كث اللحية، يلبس زيًّا رياضيًّا وقبعة، فتح جهازه واستأنف حديثه مع صاحبه..
"إنهم يتحدثون بالإنجليزية!"
انتبه الى حديثهم وعلى الرغم أنه فارق تعليمه مبكرًا فإنه كان يعي أنها اللغة الانجليزية والأغرب من هذا أنه كان يفهم بوضوح ما يقولانه!
لم يكن المارة يتحدثون بذات اللغة بل كانت لغتهم هي الإسبانية.. كيف عرف الراعي أنها الإسبانية لا يعرف ولكنه كان يفهمها أيضًا بوضوح ويعي كل ما يسمعه من حوارات!
حاول وببطء شديد الاقتراب من الرجلان لعله يأتي منهم بقبس يدفئ به برد وحشته ويصطلي به في ظلمات الغرابة..
وعندما صار خلفهم شعر بحرارة أجسامهم ولم يشعرا به خلفهم.. حدق الراعي في جهاز الحاسب الآلي وإذا بها مدينته!
كان الرجلان يتحدثان عن زلزال قد ضرب مدينته في تركيا، وكانت تلك المشاهد التي تعرض على مواقع التواصل هي مشاهد مروعة من مدينته!
اتسعت عيناه وهو يشاهد تلك المشاهد وأخذ يهذي مضطربًا:
"إنها مدينتي.. إنه الحقل الذي جئت منه.. ما الذي يحدث؟"
- ما الذي حدث؟
- أين أنا.. هل أنا ميت؟
لم يكن الرجلان ليسمعانه لكنه كان يقف بينهم، يتابع معهم ولا يستطيع الحديث معهم!
عادت الأفكار والأسئلة تضج في ذهنه والأصوات القوية تكاد تعصف بمسامعه..
ولما وصل الباص وقف الرجلان استعدادًا لركوبه فحاول الراعي اللحاق بهم ليفهم المزيد، لكن خطواته كانت خارقة السرعة وفقد نفسه مجددًا ليجد نفسه على أحد الشواطئ في إسبانيا..
جلس منهك التفكير يتأمل الشمس البرتقالية وقد توشحت بوشاح خفيف من حرير السحاب استعدادًا للغوص في مضيق جبل طارق..
كان يراقب المشهد دون أن يغلبه التعب أو النعاس، إنما الغلبة حينها كانت للحيرة والتساؤلات..
حاول الهدوء والتركيز حاول الفهم فأمسك على رأسه وأغمض عيناه رفضًا لذلك الواقع العجيب!
وفجأة شعر برعشة وكأن برقًا قد هبط من السماء ليصعقه بقوة.. فتح عينيه ليجد قناع الأكسجين على وجهه.
وصداع قوي يرج عقله رجا فتلوح في افقه ذكريات سريعة..
سمع أنينه وشعر بوجعه ولاحت في ذهنه صورة لمكان مظلم مملوء بالغبار ورشقات المطر تضرب المكان ..
التفت شمالاً كأنه يهرب من أوجاعه، فلاحت في ذهنه صورة أخرى لذات المكان وبصيص من النور يأتي بنباح كلب وقرع الأقدام لأناس يركضون!
أغمض عينيه وأنينه يملأ أذنيه لا يقوى على إيقاف الألم، وتذكر أصوات بشر وسيارات إسعاف كثيرة..
- ما الذي حدث!
فتح عينيه ليجد نفسه ضمن أربعة جدران في أحد المستشفيات، واختفى صوت ضجيج الشوارع في إسبانيا تمامًا، ولم يبقَ سوى صوت جهاز النبض جوار رأسه يعلن عودته للحياة..
أرخى رأسه الوجيع على الوسادة لتسقط دموعه وأطلق تأوهاته وهو يحدق في سقف الغرفة لا يطيق ذلك الألم، وارتجاع الذاكرة مستمر في إرسال الصور المتناثرة التي عجز حينها عن تجميعها.. فالألم كان يحول بينه وبين الصورة الكاملة..
دخلت الممرضة لتراه فاتحًا عينيه وبصوت يبعث البشرى انطلقت وعادت ومعها الطبيب وبعض أفراد عائلته..
نظر حوله ليجد لفيفًا من الناس حوله يحمدون الله على سلامته..
ومرت الأيام وأدرك الراعي أن ما حدث كان زلزالاً ضرب منطقته وأنه نجى منه بأعجوبة..
كل الصور التي كانت تلف عقله حين أفاق من غيبوبته كانت ذكريات الحادث وتفاصيل بسيطة استطاعت جوارحه الاحتفاظ بها... لكن ذلك الحلم المرعب الذي أفاق منه كان موضوعًا آخر..
وبعد خروجه من المستشفى تذكر حلمه العجيب وقرر الدخول إلى إحدى مواقع التواصل الاجتماعي ووضع اسم ذلك الرجل الإنجليزي ذو الزي الرياضي، وتفاجأ عندما رأى الرجل ذاته بنفس الملامح والاسم والصفات.. تصفح صفحته بشغف وكأنه أحد أصدقائه محاولاً ترجمة الصفحة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة التركية..
وجد كل ما رآه في حلمه موجود بتفاصيله على أرض الواقع، بل إنه وجد صورًا مطابقة لتلك المناطق التي تاهت فيها روحه في أثناء غيبوبته!
ظل ثابتًا تسيطر عليه دهشة لا برهان لها في خضم صورًا في ذاكرته لا دليل لها في واقعه..
صدم بما رآه وهو يقلب صورًا لإسبانيا وكأنه قد زارها بالفعل!
وعاد السؤال الأزلي إلى ذهنه أشد زلزلة من ذلك الزلزال الذي غيبه أيامًا عن الواقع..
"أين هي الحقيقة؟"
وبين فانتازيا الروح ومنطقية الجسد عاد الراعي منفصمًا تتنازعه الأفكار وتعصف بذهنه الأسئلة..
مايو 14, 2023, 4:20 م
أكثر من رائعة، خُضت مع هذا الراعي كل التفاصيل التي مرّ بها، سرد ووصف يفوق الخيال... جميلة جداً... الى مزيد من التوفيق والنجاح... 👍👍
مايو 14, 2023, 7:04 م
أصابتني القشعريرة ...ولكن أين هي الحقيقة ؟
ملهمة أنت يازبيدة ❤️🌹
مايو 15, 2023, 5:11 م
نحن نيام حتى اذا متنا استيقظنا ..عالم الروح عالم خارق وواقعي لا يعلمه الا الله .. سعيدة جدا عزيزاتي بمتابعتكن لي..
مايو 15, 2023, 6:46 م
الكلمات كلها طوع قلمك وإحساسك الرائع وانت تقوم بنظم كلماتك الجميلة، وتمنحنا إحساسًا مذهلًا، وأنت تصف ما يدور في خلدك من كلام وأحاسيس، دمت أيها الكاتبة المبدعة فخرًا للكتاب ، وملاذًا للحروف الجميلة، والأحاسيس الراقية.🌹🌹🌹
مايو 15, 2023, 10:44 م
شكرا روابي على احساسك..
مايو 21, 2023, 5:06 م
تمنيت ان لا انتهي من القراءة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.