ليت ما كان ما كان، وليتها ما كانت كما كانت، وليت ما كانت هي ولم أكن أنا. هكذا هي الحيوات؛ يعيش الإنسان منا حياتين، كما أن في الكون متناقضات كالنور والظلام، والظل والحرور، والقلب والعقل، فإن حياة الفرد حياتان، الأولى نقيض الثانية، ربما تكون الأولى سعيدة طيبة والأخرى تعيسة خبيثة وربما العكس، والأهم ما بينهما من فواصل...
وفواصل الحياة قنطرة على بحر من الفراغ ينتقل خلالها الفرد من حياة إلى حياة، ومن عالم إلى آخر، إما أن يخرج من نار إلى جنة وإما من جنة إلى نار. تلك القنطرة هي أحداث متتاليات يمر خلالها الواحد منا ليخرج منها إنسانًا آخر غير الذي كان؛ طاحونة لا تعرف تروسها الرحمة، تتكسر على أحجارها المشاعر والعواطف، وتتحطم بين رحاها الأحلام والآمال.
ماذا أكتب؟ عمَّ مضى؟ عمَّ هو آت؟ أفتش داخلي عني، عن هذا الذي كنتُه منذ زمن بعيد، عن منطوٍ سكن الخوف قلبه، لا يعرف شيئًا عن الحياة سوى القليل: طعامٍ وشراب، منزل قديم وحقل صغير، وبعض العجائز، هدفه دومًا السعي إلى مستوى مقبول، أن يكون ما يريده المجتمع...
يوم وُلِدت فيه حياة أخرى، حياة لا أعرفها، لا تشبه ما مضى ولا ما تمنيت، يوم بألف أو بألفين أو يزيد، يوم بلا وعي، بلا روح، بلا جسد، يوم بلا حياة، هو يوم غاب مني.
قبله كنت أنا كما أعرف: ذلك الصبي الجاد الكادح، صاحب السمت الهادئ، والملامح البريئة، مهاري جيد، مسؤول، ساعٍ يريد الوصول، لا يطمح إلا أن ينال الرضا، رضا الأنا الأعلى، ألا يكون مختلفًا أو متخلفًا، بل إنسانًا طبيعيًّا يعيش ويتعايش، لا يلفت الانتباه، ولا يحدث صخبًا لنجاحات، بل يمر بحياته مرور الكرام. هذا هو الذي كنته، وليتني بتُّ عليه، كنت أنا وكانت تلك الحياة الساذجة.
أما بعده فدارت دوائري وانخلع ظفري من لحمي، ولحمي من عظمي، وصرت هذا الذي... لا أعرفه، لا أتحدث عنه.
أخيرًا: بعض التواريخ لا تُنسَى، وكذلك الأيام، فواجع الأقدار مرعبة، إنها ضخمة مقارنة بهذا القليب الصغير الذي تضحكه دغدغة الكلمات.
إبداع........رائع جدا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.