قرَّرتُ في لحظة مفصلية من حياتي التخلي عن صداقة البشر، فجُلُّهم انتفاعيون ومصلحجيون، ففي وقت الحاجة لا تجدُ أحدًا، ويتخلى عنك في أول مفترق طريق أو أول عشواء سفر.
وقرَّرتُ أيضًا اتخاذ الكتب جليسًا ورفيقًا وخليلًا، فالكتاب تجده دائمًا وأبدًا إلى جوارك في الحلوة والمرة، في الصفاء والكدر، وفي الخيبات ناصحًا أمينًا في نصحه، وفيًّا في صداقته، مُحبًّا ودودًا لصحبه. قالوا عنه: "وخير جليس في الزمان كتابُ". فالجليس أشد وفاءً من الصاحب والصديق، لأن الجليس أشبه بالظل لك، يلتصق بك ويلزمك في كل حاجة ووقت، ناصحًا محبًّا صادقًا.
في كل ليلة أتوجه إلى مكتبتي فأختار صديقًا جديدًا من بين الرفوف، وتبدأ المناقشة مع هذا الصديق "الكتاب". فيعرض عليَّ أفكاره وأصدمه بآرائي، وبالتأكيد يصحبنا ضوء خافت ورائحة القهوة دافئة ومع سكون الليل. يكون النقاش لذيذًا رائعًا مفعمًا بالصدق والحب.. تلك الليالي من أجمل الليالي بصحبة كتابي ورفيقي وجليسي.
أن يتحول الشيء إلى إدمان فتلك مصيبة، أما في حالة الكتب فهي محمدة نبيلة. يصطفي الله محبي الكتب بتلك الخصال، فجُلُّهم مفصولون عن العالم المحيط، لهم عالمهم المملوء بالإخلاص والود.
قل لي: أي محب للكتب تخلى عنه كتابه أو بدَّل آراءه وقناعاته مع مرور الزمن؟ كما تفعل البشر كل يوم؛ يصبحون في رأي، ويبيتون في رأي مخالف.
أما للرواية شأن آخر، فأنا أقرأ الرواية وأتخيلها أمامي سينما حياة بأبطالها وأحداثها. أضحك لطرافتها وأبكي لموقف أثَّر فيَّ. تعجبني كتابات الطيب صالح الباحثة عن الذات، فأبحث في ذاتي، وتعجبني روايات عمنا نجيب محفوظ، الذي طوى القاهرة القديمة كلها في مجموعات رواياته، فتحس بخطوات أصحابها الواقعة في أزقة المدينة في منتصف الليل في قاهرة المعز.
أما أستاذنا الكبير إحسان عبد القدوس، فهو سيد التشويق بامتياز. يشدك من أول صفحة لتجد نفسك في آخر الصفحات، وما يلبث ألم ظهرك يذكرك بالوقت الطويل الذي قضيته في القراءة، وما أروعه من ألم!
تلك هي الحياة مع الكتب يا أصدقاء.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.