"ركبت الحافلة، فوجدت نفسي بين وجوهٍ تتقاطع كل منها مع وجهة مختلفة. لم أُلقِ بالًا لصوت الباب الذي يُغلق خلفي، ولا للمياه التي تنساب من تحته كأنها أصداء لرحلة لا تلتفت إلى الوراء. كل شيء حولي كان يتلاشى، إلا صوت أفكاري التي بدأت تهمس في أذني، كأنها تسعى لملء المسافة بيني وبين وجهتي المجهولة.
كانت الحافلة تعجُّ بأقدامٍ تتحرك في صمتٍ وكأنها تغرق في عالمها الخاص، وكنت أنا، غريبًا وسط الجميع، أسير في طريقي الذي لا يبدو له نهاية، محاطًا بوجوهٍ تشبه الأشباح، لا يهمها من أنا ولا إلى أين أسير.
وأخيرًا، وقفت أمام الوجه المطلوب، قُمت متثاقلًا، خطواتي تجرني نحو مكتبي كما لو أنني أسير في طريق لا نهاية له. بينما كنت أمشي، أردت أن أحيي المكان كما اعتدت، ليس بدافع الرغبة، بل كنوع من العادة التي لا فكاك منها.
دخلت، فاستقبلني منظر الملفات المتراكمة على مكتبي، وكأنها جبال من الأعمال التي لا تنتهي. تنهدت بقوة، وشعرت بأن كل تنهيدة تحمل عبء يوم طويل، ثم جررت أقدامي نحو مكتبي، مستعدًّا لملاقاة ما سيحمله اليوم من مزيد من التحديات.
لكن بعد أن هممت بالرحيل، لاحظت رجلًا غريبًا يقف عند باب المكتب. كان فجأة في مشهدي اليومي، وكأنَّ الزمن قد أوقفه في تلك اللحظة. نظرت إليه، فكان يبدو عليه الفقر والتعب، ملابسه رثة وشاحبة، ووجهه مسكون بهموم لا تنتهي.
يداه ترتجفان من الإرهاق، وعيناه تغرق في عالم بعيد، حيث لا صوت سوى صدى الحياة القاسية التي عاشها. شعرت بشيء غريب يعتصر قلبي، شعور بأن هذا الرجل يحمل أكثر من مجرد قصة حزينة؛ إنه يحمل عبئًا لم يكن ليُفهم إلا بتلك النظرة الصامتة.
نظرت إليه بعمق، متأملًا في ملامح وجهه التي تحمل سنوات من المعاناة، ثم دون أن أقول شيئًا، انسحبت بهدوء، متجنبًا تلك النظرة التي كانت تلاحقني حتى بعد أن ابتعدت. فشعرت بالغرابة تتسلل إلى داخلي، وكأنني لم أكن فقط أمام رجل غريب، بل أمام لحظة من الزمن نفسه، لحظة لن تتكرر.
ومع ذلك، كان يراودني شعور غريب، شعور بأنه يوجد من يشعر مثلي، بأن الحياة قاسية وبائسة، وكأننا جميعًا ضحايا لتلك القسوة التي لا مفر منها.
ثم أدركت، كما أدركت في لحظات سابقة، أن كلًّا منا يعيش في عالمه الخاص، يتألم في صمت، ويبحث عن الأمل وسط الظلام. ربما كانت تلك اللحظة أكثر من مجرد لقاء عابر، بل هي تذكير أن الحياة على الرغم من قسوتها، تخلق دائمًا تواصلًا خفيًّا بين الأرواح. ونحن جميعًا نحتاج إلى تلك اللحظات التي تمنحنا القوة للاستمرار، حتى ولو كانت غير مرئية لأعيننا".
خاطرة رائعة صديقتي .. دمتي مبدعة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.