عندما يتبنى الناقد مقولاتٍ معيَّنة على أساسها يحكم على النص الأدبي، تُصبح هذه المقولات شيئًا فشيئًا أصولًا أو مبادئ ثابتة.
والنصّ الروائيّ -مثلًا- الذي لا يمتلك خصيصة تعدُّد التأويلات، ولا يمارس الحذف الذي يكاد يجعل النصَّ مختصر حكاية، ويسلك طرقًا فنيّة بدائيّة ... يُصبح نصًّا تافهًا ضعيفًا، ويوصف مبدعه بأنه كاتب نصف موهوب.
والكتَّاب يلتمسون طرقًا مختلفة في التعبير، وقد يكون سبب الحذف الذي أجريَ في النصّ الروائيّ خوفَ الكاتب من شيء معيّن لا رغبته في أن يترك للقارئ مساحةً للظنّ والحدس والإكمال. فلجوء الكاتب إلى التعمية والتورية صار موافقًا لمقولة الناقد الحديث. لكن ماذا يفعل الكاتب الذي لم تُلجئه ضرورة إلى الكتمان ولم تُلجمه سلطة تمنعه من البوح؟ إنه كاتب نصف موهوب.
والناقد الأدبيّ بطبيعة الحال صار مُقبلًا على كلّ نصّ يترك لها مساحةً لأنْ يتكلم، أمّا النص الذي يقول كلَّ شيء، ويُفرِط في الوضوح والتبسيط، فإنه لا يُثير الناقد.
والجمهور غالبًا مَّا يُقبل على النصّ الواضح المعقول المحسوس؛ لأنه يعبّر عنه، ويكشف له عن جوانب الحياة المختلفة، ولا يُزعجه بالوقوف طويلًا عند عبارة غامضة لتفسيرها أو التماس دلالتها.
تفكير الناقد إذن مختلف عن تفكير القارئ العاميّ، فالأول يريد أن يبني المتحف من خلال النظر إلى أساسه فقط بالتخيُّل والتأويل، والآخَر يريد أن يتنزه في المتحف ويستمتع بالصور والتُّحَف فحسب.
ووعي عدد كبير من الكُتَّاب الكبار بمقولات النقد وهندسته يصبّ في مصلحة النقد الأدبيّ، لكنه أمر يُغضب القارئ العاديّ الذي يقرأ لمجرّد المعرفة أو التسلية. فإذا امتدّ الوعي إلى الكُتَّاب الصغار ضيّق ذلك على الجمهور الذي لا يسعى وراء نصّ يتمتع بحيلة فنيّة أو تكنيك دراميّ أو رؤية حداثيّة غريبة أو معنى غير محدَّد ولا واضح.
ولذلك احتال بعض الشعراء والكتاب ليربحوا الناقد والجمهور معًا، فكتبوا القصيدة العموديّة السورياليّة، ونَظَّموا القصيدة العموديّة التقليديّة تنظيمًا يجعلها تبدو لغير المتخصّص أنها شعر حرّ. وكوَّن بعض الروائيّين رواية من فصولٍ، بحيث يكون فيها فصل للقارئ العاديّ، وفصل للناقد الأدبيّ. وهذه مفارقات طريفة أحدَثَتها محاولات بعض المؤلفين لاكتساب محبّة جميع الأطراف.
وانقسام العالَم في نظر المؤلف إلى نقادٍ وجمهورٍ، قد يُفضي إلى حيرة، فإمّا أن ينضمّ إلى قافلةٍ واحدة منهما يسعى إلى إرضائها بإخلاص، وإمّا أن يقف متذبذبًا ممسكًا بالعصا من وسطها، يكتب تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، وقد يلقى حتفه الأدبيّ حين يجد إعراضًا من الفريقينِ.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.