ربما أنا أثق في صوت مياه البحر وهو يدندن بنغمٍ ويعزف على الرمال التي تستقبل ضربات الموج الواثبة وكلها جراءة، لقد هدمت هذه المياه وجرفت البيوت التي شيَّدتها من الرمال التي قبضتها بين أصابعي، وأبدعت في تشكيلها، ورسمت بين نتوءاتها أفكاري التي عششت في رأسي على الرغم من شرودي الدائم، وأنا أنظر إلى قرص الشمس عند المغيب، وكأنه يستأذن مني بأنه سيترك لليل مساحة من الوقت، ويذهب ليأخذ قسطًا من الوقت في راحة.
أنا أجلس بين الأطفال الصغار الذين يرهبون قدوم الليل، لأن هذا يعني أن وقت لعبهم قد انتهى وهم يعدون بين مقاعد الجلساء تحت الشماسي، وأن النضارة تعلو سحناتهم، والبراءة تخرج في كلماتهم التي تُعبِّر عن الانتشاء، وأخرج كل يوم لأرى الأطفال يحصون عدد الأيام التي مضت منذ بدء مصيفهم.
لقد مضى يومان.. لقد مضى ثلاثة أيام.. بدأت تظهر على وجوههم الامتعاض، لقد جرَّت الأيام من بين أياديهم وهم لا يشعرون، ويتمنون لو أمضوا عمرهم بين الشاطئ والماء، لكن هذا مرهون بعدة أمور يصعب تحقيقها على الدوام.
لقد بدأت أشعة الشمس تخترق جلودهم والاسمرار يزحف على وجوههم، لأنهم يقضون معظم الوقت على الشاطئ، ويمارسون رياضتهم المختلفة، لأن كل واحد له هواية تختلف عن هواية الآخر، حتى في البيت الواحد؛ لأن كل واحد يريد أن يكون مستقل الشخصية، ولا يريد أن يخضع عقله لشقيقه الآخر أو شقيقته هكذا.
والأهالي يغضون الطرف عن كل ذلك؛ لأنهم يريدون أن يكون المصيف متنفسًا يخرج كل واحد منهم ما داخله من شحنات سلبية، ويلقي بها عن طيب خاطر في البحر، الذي يستوعب الكثير من مخلفات الهموم، التي تعيش داخل النفوس المرهقة من أعباء العمل طوال العام.
يريد أن يبدأ موسمًا جديدًا بنفسٍ متجددة لا يشغلها شاغل، لا سيما أنه طوال أوقات العمل وهو مغروس مثقل بالمتاعب، لكن عندما تأتيه اللحظات التي يفرغ رأسه من شحنات الهموم تعلو أنفاسه المختلطة بالمتاعب.
هنا تجد كل شخص يعيش مع مياه البحر، ويناديها أن تكون مرحبة بوجوده، لأنه يعشق صحبتها، لكنه لا حيلة له إلا العمل حتى يوفر بعض الأموال للموسم القادم في المصيف.
إن الأسبوع الذي أمضاه على الشاطئ غيَّر كل شيء فيه، جعله يشعر بأنه يطير محلقًا إلى أبعد المسافات، ويعيش في حلم جميل وسط أسرته وأولاده الذين طحنتهم الدراسة والدروس الخصوصية والمذاكرة، لقد جاء الوقت حتى يعيش وسط عائلته ويفرح بهذا الدفء العائلي المنقوص دائمًا بسبب أعباء العمل التي لا تتوقف.
إن للبحر سحر جميل، لا سيما عندما تتحرك المياه الراكدة وهي ترتفع معبرة عن قدرة في التحليق وهي تربت على الشاطئ وتلمس أجساد الجالسين الذين يشعرون بلطفها وسط حرارة الشمس اللافحة.
وحينما تهب النسمات الباردة وتأتي تداعبنا في حنان، ما أجمل البحر العاشق والمعشوق!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.