في يوم... نعم، في ذلك اليوم، كنت أسير ميلاً محمولاً على كاهل الخشية، خطواتي تتردد في أثناء صمت الليل. كنت حينها خفيةً أغدو إلى ذكراك، كي لا أنساك.
وقفتُ أتنسم ريحك على ناصية حبك، في مكان عاتم تخنقه العزلة. نظرتُ إلى السماء بعينين ملؤهما ذكراك. هناك، أحسستُ بنور يضيء عقلي ودربي وفؤادي.
نورٌ غامض يتوسط خيط الظلام، يلامس زوايا روحي. لم يكن مجرد نور عابر، بل كان إشراقة حياة. شعرتُ به يعيد ترتيب الشتات بداخلي، ينير طريقي، ويبث في قلبي سكينة افتقدتها طويلاً.
كان ذلك النور أملًا صامتًا ملغزًا، يهمس لي في هدأة الليل بأن ما من ظلام يدوم، وأن الذكريات، مهما أثقلت الروح، لا تلبث أن تفسح المجال لنسائم الأمل.
فجأة، أغمضتُ عيني، وتجلت صورتك أمامي، أمي. أدركتُ حينها أن النور الذي شعرت به لم يكن سوى ضوءك. كنتِ دائمًا هناك، حتى في غيابك، تملئين عتمة أيامي ببريق حبك الذي لا يخبو.
أتذكر يديكِ اللتين لا تعرفان السكون، كيف كنتِ تزرعين فيهما الأمل كمن يزرع الأرض بالحياة. كل خطوة خطوتها كانت ثمرة تعبكِ وسهرك، وأنتِ تهيئين لي دروبًا وعرة، لتكون ممهدة بما يكفي لأعبرها دون أن أنكسر.
حين تراكمت الصعاب، وحاصرتني الحياة بوجهها القاسي، كنتِ اليد التي ترفعني كلما سقطت. أذكر عندما خسرنا كل شيء، وبدت الأيام وكأنها لا تنوي أن تبتسم لنا مجددًا. كنتِ تملكين قدرة غريبة على جمع شتات الأمور، تلملمين حزني وتنثرين بذور الأمل في زوايا روحي المظلمة.
لم تكن كلماتك مجرد عبارات حانية، بل كانت قوة تستند إليها روحي. كنتِ تقولين لي دائمًا: "لا تخف يا بني، الرياح مهما اشتدت ستضعف، والجبال تبقى شامخة مهما طالت العواصف." تلك الكلمات لم تكن مجرد وعود، بل خارطة طريق علمتني أن الحياة تُعاش بشجاعة وقلبٍ قوي.
وأنا الآن، أقف على عتبة عالمي، أواجه الحياة بكل ما علمتِني إياه. لا أعرف إذا كنت سأتخطى كل العقبات، لكنني أعرف أنني مدينٌ لكِ بكل ما أصبحتُ عليه.
لقد علَّمتِني أن الحب ليس شعورًا عابرًا، بل فعلٌ أزليٌّ، يدعم الجسد حين ينهار، ويمسح عن الجبين تعب الأيام. أمي، كنتِ وما زلتِ النور الذي أراهن عليه، والأمان الذي لا أخاف معه.
عاشت سيدة قلبي الأولى، وظلَّ عرشها ثابتًا لا يهتز.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.