يُنبِّهنا هذا الكتابُ المشهور إلى الوقت، ويحثّنا على سرعة استغلاله في قضاء الأوطار وتحقيق الأمانيّ، ولكن هل تنتهي أحلام الإنسانِ؟ لا أظنّ ذلك، وأظنُّ أن الصواب هو ما عبَّر عنه أحدُ الشعراء قائلًا:
لا تَـنْـتـهي هِمَمُ الفتَى. فإذا انقضى •• وَطَرٌ تَـجَـدَّدَ غيرُهُ في الخاطرِ
أحلامنا مثل خواطرنا وأفكارنا، لا تنتهي إلا إذا رقدنا تحت الترابِ. ولكن هل نوقف عقولنا؟ هل نُهمِل مطالبنا؟ والجواب: لا. إننا نسعى، وسعينا هذا لا بد أن نُراعي فيه الإتقان. واللُّهاث المحموم خلف "الأمانيّ المنشودة" خوفًا من "الموت غيرَ فارغين" لن يُنتج إلا أعمالًا رديئة غير ناضجة.
تخيّل معي كاتبًا يريد أن ينظم الشعر لمجرّد أنه أحبَّ قصيدةً ما، فكيف يُحقق ذلك وهو لا يعرف أوزان الشعر ولا يملك اللغة الكافية التي تُطيعه في التعبير عن أفكاره وعواطفه؟
إن ما نطمح إليه لا بدَّ أن يقوم على أسّ، وإلا كان مؤسسًا على شفا جُرُفٍ هارٍ ينتهي أمرُه بالانهيار.
كيف يُنشئ إنسانٌ مصنعًا ضخمًا يتمنَّى إنشاءَه وهو لا يقدر على الإنفاق على عياله؟ إن إنشاء المصنع ليس أمرًا مستحيلًا، ولكنَّ ظروف هذا الرجل لا تسمح له بأنْ يُحقِّق طموحه بالطريقة الطبيعيّة المنطقيّة، وعليه أن يصبر طويلًا.
أمَّا الذين يقولون في جنون: كيف نصبر؟ وإلامَ؟ فإنهم إذا كانوا صادقين في سعيهم فلن يعدو قولُهم هذا أن يكون تعبيرًا عن الإحساس العميقِ بالزمن الذي "ينفلت من بين أيدينا" بسرعةٍ مُروِّعة.
سيموت الناسُ جميعًا، وستظلُّ نفوسهم معلَّقةً بأشياء الدنيا، وإدراك بعض الأمنيَّات خير من تركِها جملةً، وخيرٌ -أيضًا- مِن محاولةِ إدراك الأمنيات جميعًا.
وعلى الإنسان أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح في كل شيء.. والحياة مزيج من الأمل واليأس، والعطاء والسلب، والسرور والغمّ.
ومع ذلك فلست مع من يضيع عمره في محاولة وهمية حين ينزع إلى عملٍ تامّ كامل لا عيب فيه، فإن هذه المحاولة التي تظلّ عمليّاتها مستكنَّة في الذهن فقط لن يُكتب لها التوفيق أبدًا؛ فهي مُغرِقة في المثاليّة.
وأذكر بهذه المناسبة قصتين من قصص الكاتب الكبير نجيب محفوظ، والقصة الأولى هي رواية "خان الخليليّ"، وفيها نعثر على نزعة أحمد عاكف إلى الكمال في طموحه التأليفيّ، وفي النهاية لم يكتب أحمد عاكف شيئًا، وقد قضى عمره يقرأ ويعبّ من الثقافة عبًّا.
والقصة الأخرى هي رواية "حضرة المحترم"، وفيها أيضًا نجد عثمان بيومي الذي يسعى سعيًا محمومًا لإدراك مطلبه السامي، ولكن حين بلغ ما بلغه كان قد وصل إلى مرحلة الموت الوشيك، فلا هو استمتع بالمنصب الكبير، ولا عاش حياة طبيعيّة تقوم على التنازل عن بعض الطموح.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.