خاطرة "موت الوقت".. خاطرة اجتماعية

هل مت من قبل؟ هل ولدت من جديد؟

لا تتعجب، فأنا مت وعدت إلى الحياة، سأقص عليك مختصر التجربة، اليوم الذي مت فيه هو يوم ولادتي نفسه، لكن لم يكن مثل باقي الأيام.

لم يكن الوقت يمر كالمعتاد، لم يكن بطيئًا ولم يكن سريعًا، ولم يتوقف بمجرد أن دقت الساعة التي لا تدق أبدًا لتعلن تمام الواحدة ظهرًا، وهذا ما أثار انتباهي، فهي لا تعلن عن وقتها أبدًا، وعليّ أن أنظر إليها من حين لآخر لأعرف إلى أين وصلت.

لكن عندما التفتُّ إليها دُهشت، تحولت كل عقارب الساعة لتدور عكس اتجاهها المألوف من اليسار إلى اليمين بدلًا من اليمين إلى اليسار.

ظننت في بداية الأمر أن خللًا أصابها، لكني لم أهتم كثيرًا باكتشافه لأصلحه، وبعد ذلك بوقت قصير سمعت صوتًا آخر، إنه صوت الأذان، ظننت أنه العصر.

لكن لم يمر منذ أعلنت الساعة الواحدة ظهرًا كثيرٌ من الوقت، كان يجب أن تمر ساعتان ونصف في الأقل ليحين موعد أذان العصر، ولا أعتقد أنها مرت بهذه السرعة، لم أهتم كعادتي، فأقصى ما أفعله عند سماع الأذان أن أوقف موسيقاي حتى ينتهي، وأحيانًا أردد الأذان، لكن مع صوت الأذان عاد صوت الساعة يدق من جديد، لم أندهش هذه المرة، لكني التفت إليها حينها فوجدتها الثانية عشرة إلا دقيقة..

إنه وقت الأذان فعلًا، لكنه ليس أذان العصر، إنه وقت الظهر.

تحققت من هذا من مواقيت الصلاة المكتوبة أسفل ورقة النتيجة المعلقة على الحائط، وتحققت من تاريخ اليوم.. الثلاثاء 31/12/ 1999.

الوقت كالسيف..

تلك الجملة رأتها عيني في أسفل ورقة النتيجة، تعجبت، لكن لم يصل تعجبي إلى الحد الذي يجعلني أشك أن شيئًا ما حدث أو سيحدث، بعد مدة بدأ ضوء الشمس يخفت في الغرفة، في البداية ظننت أنها غيمة حجبت الشمس في ذلك اليوم الشتوي البارد.

لكن شعاع الشمس استمر في الخسوف، وبدأ يملأ العرفة الظلام، وصوت الطيور انقطع وحركة الناس سكنت وعم الظلام التام في غرفتي وفي الشارع وفي كل مكان.

وعادت الساعة تدق، انتبهت لها، لكن لم ألتفت إليها هذه المرة، لكني بدأت أعد دقاتها حتى اكتفت بثلاث دقات، انتظرت أن تستمر وتكمل، لكنها توقفت.

خرجت من غرفتي ولم أستطع أن أرى إلا الظلام، ولم أسمع إلا السكوت، أضأت مصباح الصالة، ونظرت إلى ساعة أخرى أكبر من تلك التي في غرفتي لعلها تكون أكثر منها دقة، لكنها كانت مثل الصغيرة تشير إلى الساعة نفسها والدقيقة نفسها، والأغرب أنها كانت تسير عكس اتجاهها مثل التي في غرفتي.

ظننت في عقلي الظنون، هل أصابه شيء من الخرف أم هذا هو الجنون؟

من خوفي على حالي دخلت غرفتي أجري وألقيت جسدي على السرير، ظننت أنني غفوت؛ لأن صوت الساعة أيقظ ثباتي من جديد..

تابعت عدَّ دقاتها؛ واحد اثنان ثلاث... إلى الدقة السادسة

نظرت لنافذتي، ورأيت بعض ضوء النهار..

وبعده تسلل صوت الطيور...

أيقنت بعدها أني فقدت إدراك الوقت، وربما فقدت إدراك كل شيء...

واستسلمت..

خرجت من الغرفة، وصدفة نظرت إلى تلك النتيجة المعلقة على الجدران فوجدت أن التاريخ عليها تاريخ أمس 28/7/1983!

بدأت أنظر إلى يدي، وأتحسس جسدي، وأتفقد المكان حولي؛ لأني شككت بكل شيء، سمعت صوتًا غريبًا صادرًا من غرفة أمي رحمها الله، ذهبت ببطء إلى الغرفة أترقب بحذر، فأنا أعيش عيشة الوحيد قولًا وفعلًا، دخلت الغرفة فإذا بطفل صغير ينظر إلى المرئية المعلقة على دولاب الغرفة، حاولت أن أناديه.

لكن لا أعرف اسمه، اقتربت منه قليلًا ببطء الحذر أو الخائف، لم ينتبه إلى خطواتي، واستمر في الغناء بكلمات مجهولة اللغة غير واضحة، لم يبق بيننا إلا أن أمد ذراعي نحوه لألمسه، لكني فضلت الكلام.

- أنت.. أنت

فالتفت إلي، فرأيت وجهه وبدأت عيني تفسر ملامحه، أطلت النظر في صمت عندما توقف عن الغناء بلغته المجهولة تلك ثم استدعى عقلي كل صور الأطفال المخزنة في عقله، ولم يمض سوى دقيقة حتى عثر على الصورة المطابقة.

 إنها تطابق صورتي في طفولتي في شيء أقوى من الدهشة والتعجب، رجعت خطوتين للخلف، ابتسم الطفل وتقدم نحوي، لكني من خوفي توقف عقلي وغلَّت قدماي وانتظرت مصيري، ثم حدث الأعجب من كل ما سبق من بداية ذلك اليوم العجيب.

أكمل الطفل شبيهي خطواته إلى الأمام، ولم يلتفت إليّ، بل مر عبري كأنني ظلال أو ضوء أو شيء ليس له كيان، بدأت أنظر إلى جسدي الذي أصبح هلاميًا، يداي نصف ظاهرتين، قدماي بالكاد تلمس الأرض، ذهبت إلى تلك المرئية لأرى صورتي، لكني ما رأيت شيئًا أعرفه.

رأيت صورة ذلك الطفل الذي اخترق جسدي من قليل، التفتُّ خلفي فلم أجده، سمعت خطوات تجري هنا وهناك وبعض الضحكات، خرجت مسرعًا لأرى مزيدًا من العجائب المتتالية، وظننت أنني مهما رأيت لن أندهش، لكني هذه المرة صعقت.

لم تعد الأشياء في أماكنها كما وضعتها أنا، بل إني لم أجد كثيرًا منها، كل شيء حولي أصبح قديمًا حتى طلاء الجدران والأثاث وأمكنة الأشياء التي بدلتها عادت كما كانت من سنين.

لم أعد أعرف بماذا أشعر أو ماذا أفعل أو ماذا يحدث، أسرعت أجري إلى غرفتي، هي الأخرى، كل شيء فيها تغير، نظرت إلى الساعة التي كنت أضعها في جوار السرير، لكني لم أجدها ولم أجده، نظرت خلفي وجدت مرآة قديمة جدًا، اقتربت منها ببطء ونظرت داخلها وصدمت.

أين انعكاس صورتي، أنا لا أرى شيئًا، لا أرى إلا انعكاس ما خلفي وصورة هذا الطفل، تحسست زجاج المرآة لأتحقق أنها فعلًا مرآة، تحققت من أن يدي لم تلمس شيئًا، كل ما أراه حولي لا أجد له ملمسًا، ما الذي يحدث؟

أغمضت عيني فرأيت كل ما أراه وكأني لم أغلقها، ألطم وجهي كي أستفيق فلا أشعر بوجهي أيضًا، أقرص نفسي فلا أجد ما أطبق عليه أصابعي، يا ألله! كيف يعقل هذا؟ أين جسدي؟ وأين أنا؟ وماذا أرى؟ وأخذني من دهشتي هذا الصوت.

تكسير زجاج وصوت صراخ، أسرعت نحو الصوت فإذا بهذا الطفل يبكي، نظرت حوله فرأيت صورة والديّ التي كانت معلقة من قبل قد سقطت وتكسرت وتناثر زجاجها في كل مكان، ما هذا؟ لقد حدث هذا من قبل وأنا صغير.

تسببت يومًا في سقوطها، وانجرحت يداي، أسرعت إلى ذلك الطفل الصغير أتفقد يديه فإذا هي مجروحة نفس ذلك الجرح الذي كان في يدي، نظرت إلى يدي، بالفعل لا يزال أثر الجرح فيها، وما إن رفعت عينيّ عن يدي وعدت أنظر إلى ذلك الطفل العجيب لم أجده، ظننت أنه اختفى، وأن ما حدث كله كان وهمًا وانتهى، ثم سمعت صوت دقات ساعة والدي القديمة المتوقفة منذ رحل من زمنٍ بعيدٍ، فذهبت نحوها، وإذ بهذا الطفل يعبث بها..

وضع كرسيًا أسفلها ليصل إليها كما فعلتُ وأنا صغير، قررت هذه المرة أن أتدخل وأمنعه؛ لأني أعرف ما الذي سيحدث له، أسرعت لأمسك ذلك الكرسي: لأني أعرف أنه سوف ينكسر ويسقط الطفل على رأسه مغشيًّا عليه، لكن يديّ لم تمنع ذلك القدر، وسقط الطفل مغشيًا عليه، حاولت إسعافه، لكن يديّ لا تؤثر ولا تقدم ولا تؤخر، استسلمت لتلك الأحداث وجلست جواره أنتظر مزيدًا من العجائب، لكن لا مزيد.

شعرت بالتعب الشديد، فغفوت بجوار ذلك الطفل الذي هو أنا، وأفقت على صوت دقات الساعات، كل الساعات في البيت دقت في وقت واحد، لم أستطع تمييز واحدة من الأخرى لأحصي الدقات، فعدت إلى غرفتي ببطء المنهك وليس الخائف أو الحذر، فوجدت سريري والساعة بجواره.

أسرعت أنظر إلى الساعة وأتفحصها بكل دقة فإذا بها تشير إلى الواحدة، نظرت إلى نافذتي فإذا الشمس مشرقة، فتحتها فإذا صوت الطيور والبشر والآلات والسيارات في كل مكان، فخرجت أنظر إلى تلك النتيجة المعلقة فإذا بها التاريخ القديم نفسه.

31/12/1999، لكن كتب أسفل الورقة:

إضاعة الوقت أشد من الموت...

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
ديسمبر 8, 2023, 11:38 ص - نور الدين شعبو
ديسمبر 7, 2023, 11:33 ص - حبيبه شريف
ديسمبر 7, 2023, 9:03 ص - رايا بهاء الدين البيك
ديسمبر 6, 2023, 7:11 ص - لجين منير شاكر
ديسمبر 6, 2023, 5:39 ص - شيماء دربالي
ديسمبر 4, 2023, 12:50 م - عبدالله مصطفى المساوى
ديسمبر 4, 2023, 9:30 ص - ليلى أحمد حسن مقبول
ديسمبر 4, 2023, 7:21 ص - عبدالله مصطفى المساوى
ديسمبر 2, 2023, 3:30 م - قدوه نمر الشعار
ديسمبر 2, 2023, 8:20 ص - سندس إبراهيم أحمد
ديسمبر 2, 2023, 7:52 ص - نور الدين شعبو
نوفمبر 30, 2023, 11:37 ص - سمسم مختار ليشع سعد
نوفمبر 29, 2023, 2:41 م - يغمور امازيغ
نوفمبر 29, 2023, 8:24 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 28, 2023, 7:06 ص - أسماء مداني
نوفمبر 27, 2023, 2:42 م - براءة عمر
نوفمبر 27, 2023, 1:17 م - عزوز فوزية
نوفمبر 27, 2023, 11:52 ص - سيرين غازي بدير
نوفمبر 27, 2023, 6:34 ص - بشرى حسن الاحمد
نوفمبر 26, 2023, 2:58 م - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 26, 2023, 2:24 م - إبراهيم محمد عبد الجليل
نوفمبر 26, 2023, 10:15 ص - ايه احمد عبدالله
نوفمبر 26, 2023, 9:51 ص - ليلى أحمد حسن مقبول
نوفمبر 26, 2023, 9:27 ص - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 26, 2023, 8:03 ص - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 26, 2023, 7:52 ص - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 26, 2023, 7:35 ص - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 26, 2023, 7:01 ص - محمد بخات
نوفمبر 26, 2023, 6:32 ص - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 23, 2023, 12:46 م - رانيا بسام ابوكويك
نوفمبر 23, 2023, 10:41 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 23, 2023, 8:28 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
نوفمبر 23, 2023, 7:26 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 22, 2023, 2:20 م - محمد سمير سيد علي
نوفمبر 22, 2023, 2:00 م - عبدالخالق كلاليب
نوفمبر 22, 2023, 6:45 ص - محمد بخات
نوفمبر 21, 2023, 8:51 ص - مدبولي ماهر مدبولي
نوفمبر 20, 2023, 7:41 ص - هاجر فايز سعيد
نوفمبر 19, 2023, 1:27 م - يغمور امازيغ
نوفمبر 19, 2023, 1:07 م - محمد بخات
نوفمبر 19, 2023, 12:07 م - أسرار الدحان
نوفمبر 19, 2023, 11:06 ص - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 19, 2023, 10:03 ص - فاطمة محمد على
نوفمبر 19, 2023, 7:49 ص - شاكر علي احمد عبدالجبار
نوفمبر 18, 2023, 11:36 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 18, 2023, 10:56 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 18, 2023, 8:09 ص - شيماء عبد الشافي عبد الحميد
نوفمبر 17, 2023, 6:13 ص - يغمور امازيغ
نوفمبر 16, 2023, 8:30 ص - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 15, 2023, 6:01 م - كامش الهام
نوفمبر 15, 2023, 2:57 م - فاطمة حكمت حسن
نوفمبر 15, 2023, 12:21 م - ساره محمود
نوفمبر 15, 2023, 11:00 ص - يغمور امازيغ
نوفمبر 15, 2023, 9:50 ص - ميساء محمد ديب وهبة
نوفمبر 15, 2023, 8:56 ص - حسن خليل سعد الله
نبذة عن الكاتب