إنني أشعرُ بوخز في إصبع يدي إنه البنصر، إذا يجب أن يعرف العالم أني أتألم، لا بد من منشور سريع يخبر العالم بمصدر ألمي، وأنتظر التعليقات وهم يدعون لي إن ربنا يأخذني أقصد يشفيني..
ما هذا الذي أراه على صفحتي الخاصة، ليس لدي منشورات جديدة في هذا اليوم!
ها أنا تذكرت، لقد فقدت اليوم إنساناً عزيزاً على قلبي هو جار ابن أخ ابن بنت عم عم عم جيران ابن زوج جدتي، إذا يجب أن يعرف العالم هذا الفقد وهذا الحزن الذي أعانيه، لا بد من منشور يصيبهم بالكآبة وتنهال المواساة والتعازي والترحمات أسفل من منشوري..
إنه علم الطاقة كيف تصدر الطاقة السلبية للآخرين عبر نشر صفحة الوفيات، ولكنهم سيتصورون أن حزني كان على هذا الفقيد في حين أن حزني على شيء آخر!
إنني حزين بائس كعادتي، ألم أقل لكم إنه علم الطاقة! إذا فلننوه بمنشور جديد أشيرُ فيه إلى أنني أشعرُ بالحزن والهم والغم، وليعلم العالم أني أشعر بالحزن، والويل كل الويل لمن لا يبتئس ويحزن معي ولتحترق روما على من فيها..
حقيقةً، لولا صفحات الهم الاجتماعي لا أعلم كيف سيكون حالنا، فما أصعب الحياة! سوف أذهب الآن لقضاء حاجتي في دورة المياه، إذا لا بد أن أعلن للعالم أني الآن أكافح داخل ميدان المعركة، أين مواقع التواصل الاجتماعي، فليعلنوا الخبر العظيم إني أعتصر أمعائي وأخرج فضلاتي وليبتهج العالم لي على تلك اللحظة التاريخية.
إن الأحداث في حياتي تتلاحق، ها أنا الآن في خلوتي على الميديا أتعبد وأدعو الله الآن، والويل كل الويل لمن لا يقول أمين على هذا المنشور، وليعلم العالم أني أبتهل وأدعو الله أليس الله معنا في كل مكان؟ حتى ولو كنا على الميديا، إذا فليرى الناس ابتهالي ودعائي على تلك الصفحات، فها نحن العباد الزهاد نتضرع وندعوا ونتحسبن على الظالمين، فكلنا نتحسبن، وكلنا نقول أمين (إذا أين الظالمون)، كم هي الحياة سريعة!
أين الموبايل، أين الكاميرات، إنني الآن على الشاطئ لا بد من صورة وأنا مستلقٍ على الشذلونج وفي فمي الشالمو وأنا أرتشف العصير وأكتب عليها مقصودة، (يا بختك شالمو وعصير والساحل الشمالي).
وها هي سيارتي الجديدة لا بد للعالم أن يراني وأنا أقودها، ولكن الصورة ليست كافية! لا بد من فيديو مباشر ينقل الحدث العظيم مع أغنية (والنبي لنكيد العزال للفنان محرم فؤاد)، فليشاهد العالم سعادتي وليحقد الحاقدون وليحسد الحاسدون..
ماذا حدث ؟ حسبي الله ونعم الوكيل في كل عين وفي كل حاسد، أنا أريد أسبوعاً بالكامل حسبنة ودعاء على أولاد الحرام أصحاب العيون الغارسة في حياتي، "انزل يا بني بالصور والعربية بيطلعوها من الترعة وسمعني صوت فسوانى في فيلم العار وهو كاتب على المنشور يعوض عليك ربنا"!
إن مواقع الوهم الاجتماعي تحولت من رسائل بريدية للتواصل إلى متنفس لكل التركيبات النفسية التي تعشق المجاملات الاجتماعية الكاذبة، حتى أصبح معظمنا ينتظر المجاملات على مدار أربع وعشرين ساعة، فتحولت المجاملات المحمودة إلى نفاقٍ مفروض بل مرفوض من أي إنسان عاقل، وبالتالي فسدت الكثير من العلاقات في ظل إصرار البعض على تحويل الواقع الافتراضي إلى واقع حياتي يومي نعيشه..
وهذا خطأ فادح؛ إذ أصبحت الأحكام على الآخرين من خلال منشور أو صورة أو تعليق، وأصبح التخمين وسوء الظن والإسقاط لمجرد مشاهدة منشور أو صورة لشخص ما قياسًا عن استعراض البعض لحياته في كل كبيرة وصغيرة، ثم يخرج ويستغيث من العين والحسد..
هذا إلى جانب من يصاب بابتلاء أو مرض قام بالصراخ والعويل من خلال منشورات وصور تصف الحالة والأوضاع والمعاناة، وكأنه هو الوحيد في هذه الدنيا المصاب، وكأنه لا يعلم أن الكثير والكثير في هذه الدنيا مصابون بابتلاءات، وربما مرت عليهم أشدها ولم يخبروا بها أحدًا، هذا ليس لأنهم لا يجيدون نشر آلامهم وأوجاعهم، ولكنهم اكتفوا بأن تحملها أنفسهم.
إن المشكلة ليست في مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنها في سوء استخدامنا له ومطالبتنا للآخرين بالتعايش معنا فيه، وكأننا مقيمون داخل صفحاته نترقب خطوات وسير العمليات عبر كل منشور واردٍ إلينا، حتى تحول من تواصل اجتماعي إلى همٍّ ووهمٍ اجتماعي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.