خاطرة «من أنا».. خواطر وجدانية

سؤال حائر يشدُّ اهتمامي، ويُلاحقني في يقظتي ومنامي، ويحلم بالإجابة، فأستمع له يومًا، وأتغاضى عنه في الأيام الأخرى، ولكنه يلح عليَّ، ويقتات من جسدي وروحي، ويتربع على جفوني، فلا أستطيع الإفلات من سياطه العنيف، الذي يجلدني كلما حاولت الفرار من الرد..

كان سؤالًا قاسيًا مجنونًا لا يعرف الاستكانة ولا النوم، كان حادًّا، جلدًا لا تثنيه الأيام ولا الليالي على الطفو على سطح عقلي وفكري، كنتُ أنهره كلَّما حاول النيل مني ومن هدوئي وراحتي وسكوني وكلَّما ضغط بثقله على صدري؛ لعلي أجد بعض الطمأنينة، وشيئًا من السلام.

ولكن الحقيقة أنني لم أعُد باستطاعتي الفرار من ذلك السؤال اللعين الذي يخدش حيائي، ويسلبني مرآة ذاتي، تلك المرآة التي لا تُفارقني في ليلي ونهاري، وأنظر بواسطتها إلى هذا العالم الساكن والمستكين.

هذا العالم البشع بشاعة تلك المرآة، نعم كانت تلك المرآة تعكسُ بشاعتي وبشاعة ذلك العالم..

من هنا أيقنتُ أن لا بد من مواجهة ذلك السؤال الجريء والجارح الذي يبحثُ عن الإجابة ولا يبالي بالعواقب التي يمكن أن تنجر عن تفاصيله وتداعياته.

سأبوحُ لكم بسر هذا السؤال شديد الخطر الذي يقض مضاجع الأموات، ويستبيح دم كل عُشَّاق الحياة الراغبين في الصعود إلى جبل الأمل والأمنيات، هناك أين تحلق الأرواح في قلب السماوات، وتحيا حياة الجمال والحُب، منتشية بخمرة الوجود الإنساني الحي التي تنضح بها شفاه العذارى والغانيات.

نعم إن هذا السؤال بقدر مرارته فهو حلو المذاق، وعلى الرغم سطوته فهو عميق الاشتياق، وعلى الرغم من جبروته فهو يزخر بالثمرات، وعلى الرغم من جنونه فهو راجح العقل وثاقب النظرات، وعلى الرغم من لعناته فهو لطيف الملمس مشرق البسمات.

نعم إنه سؤال يسكنني، ويصاحبني أينما ذهبت وأينما غيرت وجهتي وأينما حللت، وتشتد وطأته عليَّ كلما كنتُ وحيدًا؛ لأنه يعشق الهمس، ويعشق السكون والصمت، ويعشق الاستراحة على قلبي ووجداني، كمن وجد مرفأ آمنًا يرسو فيه بزورقه الصغير.

إنه السؤال الأعظم على مرِّ العصور والأزمنة والسنوات، وحَار الإجابة عنه أغلب الفلاسفة والمفكرين القدامى والمعاصرين، أصحاب النظريات، وكذلك العلماء أصحاب القوانين.

هذا السؤال هو "من أنا، ولماذا خلقت"، هل أنا عطر شذا صاغه إله الكون من عبير زهوره، أم أنا شيطان لعين صنعه الإله من طينة الخبث والضلال، أم أنا مزيج بين ملاك وشيطان اطلق عليه اسم "إنسان"، هذا الشقي الذي تلاعبت به أيادي القدر، فسجنته في قلعة نائية في قلب الصحراء، وسلَّطت عليه أفاعيها المسمومة، وعناكبها المشؤومة، وضلالاتها الفكرية الموغلة في التخلف والابتذال.

فلتُصارع أيُّها الإنسان بما أنك محكومٌ عليك بأن "لا تسأل" عما تكون، وسجين بين حرفي "الكاف والنون"، فلتُصارع بما أنك سجين الخرافات والضلالات، ولتقم رافعًا راية الثورة والتمرُّد على أنظمة التفاهة والخزعبلات، وافتح ذراعيك لتحتضن نسمات الحب والفن والجمال، ولا تقنع بالعيش في أقبية الصوامع والكنائس والمعابد، فتلك حياة الذل والهوان والأزمات.

ولتصرخ في وجه العواصف والرياح، ولتنشد بمزمارك أغنية "الأمل" النابض بالحياة، ولتعلم الدنيا أن عطرك سيملأ الوجود بالورود، وما أضيع عطر الورود بين القرود!

أيُّها الإنسان فلتكن "أنت" ولست أحدًا غيرك، واستمع إلى لحن الوجود الأبدي الكامن كالدر في أحشائك، واحتفل بميلادك الجديد، وامضِ قُدمًا لتعانق المجد والخلود.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

كلنا يسأل هذا السؤال ولكن الكثير
منا يتوه بين كيف وما والقليل من
يقنع بالإجابة ولكنها إجابة كالمسكن .
رائع
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة