روى قطرُبُ بن حائمٍ، أن الناس يتغنَّون في هذه الأيام، وهذه الأغنية يعرفها الجنين والوليد بين الأنام، وترددها الشفاهُ بين الأقوام، ولم تزلِ المآذن صادحةً، ولم تزل قيثارتها صالحةً، ولكن بعض الناس لا يعرفون لها مدى، كما يتبع لها بعض الأقوام في الأرياف والصحاري صدى، وتحفظها في اللمحات والومضات الأدمغةُ، وتنشرها في الآفاق بين الأحزاب اللغةُ، فلما استنشدتُها الناسَ، زادوني الاستئناسَ، فقالوا:
أتى دوري، فأَعْطوني حقوقي ولا ترموا على ذاك الوُثُوق
عرفتُ بأنني سأسود قـــــومي فإن دمَ السيادةِ في عــــروقي
على أوتار ما قد أنشــــــــــدَتْه شفاهٌ، قد رقصتُ بلا فــروق
وقد حانَ الزمانُ زمانُ قـــومي لديَّ النورُ من تلك الــــبروقِ
إذا ما لم أطالبْكم جمــــــــــــيعًا بحقِّي، كيف آتي بالشــروق؟
فلما سمعتُ هذه الأهازيجَ والأناشيدَ، كيف أعرف هذه التغاريدَ، فلبثت مليًّا أفكِّر في سبب ترديد القول "أتى دوري"، وفيما يحمل هذا القول في طياته من السرور والكلام الأسطوري، فسألتُ مَن يعرف للكلام وجوهًا، وليس من يسعى بين الناس بالصُوْري، كما سألتُ في الآفاق والأجواء بعض العصافيرِ، ولم أستمع إلى إزعاج الأساطير، فاهتديتُ بعد ذلك إلى حقيقة القول، وفهمت ما وراءه من السُوْل.
فتتبعت الأخبار ممن هو أدرى بالشِعاب، ومن أعرف بما في طيات الكتاب، فأخبرني بـ"بولا أحمد تينوبو" وما له من الآثار بين الأصحاب والأتراب، فألححْتُ على المخبر ليزيدَني خبرًا؛ حتى لا أكون من يحمل ضجَرًا، فقال لي: هذا الرجل كثير الأعادي، ولكنه ليس بالرجل العادي، فأنشدَني بعضَ ما كتبتْ يده، وما يعرفه به بلدُه:
سعى أعداؤه، هم عرقــلوه وقد قد برقلوا ما سجلُوه
فقالوا: لا نريدكَ في بلادي فكل الحــسن فيه أوَّلـــوه
ولم يُعْرَف له ذنبٌ قلــــــيلٌ لماذا إنهم لم يقبــــــــلوه؟
قد اتهموه، لم يُثْقِلْه كــــــــيدٌ فلما فاز، هم لم يخــــذلوه
قال قطرُبُ: فعلمتُ مغزى هذا القول الوجيز، فصرت بذلك في العز العزيز، فطمعتُ في معرفة مزيد عن الخبر، وأخبار ما أُلْحِق به من الضرر، فعرفتُ أن قومًا يدَّعون مِلكيَّةَ أرضه، ويحاولون تزييف الصُوَر، فصاحوا يقولون: الأرضُ للجميع.
ظنًّا منهم أن هذه الأرض مغصوبة، فخرجوا كالقطيع، فلم ينالوا خيرًا، فما وقفوا سيرًا، فتسربلوا الفتَنَ، وتقمصوا الإحَنَ، فساروا لتسجيل تواريخ زائفة، فقالوا: توجد دماءٌ على هذه الأرض تالفة، فأبدلوا الحقائق، وغيروا الدقائقَ، فغيروا الطرائقَ، فأنشدوا:
فهذي الأرضُ أرضُ جدودِ قومٍ لهم آثارُهم دون اندثــــــــــارِ
فأصبح يدَّعيها قـــــــــــومُ زورٍ لتغيير الحقائق بافتــــــــــخارِ
فلو ظنوا اغتصابِ الأرضِ منا سنضطرُّ الكذوبَ إلى الصَغارِ
فلما تجهورتِ الأمورُ، واتضحَ البرَّ والفجورُ، أدركتُ سبب محاولات فاشلةٍ، وسببَ رسم آثار زائلةٍ، وكففتَ اللسان عن النيل من الأعراض، فاتخذتُ الصمتَ لي من الأغراض، فعرفتُ أن "يتنوبو" فائزٌ، وهو من العقبات جائزٌ.
فبينا نحنُ في هذه الحالة والأمر، طار خبر رفض شيخ الشرِّ، وهو يدعو إلى إلغاء التوخِّي، دون التفكير في التآخي، فنهشه ذبابُ الشبكة، كما التقمه كيد التهلكة، فلما ألقى ما في يمينه، سخِر منه بعض الأقوام لأنينه، فتبين أن عدوُّ الفوز لمعرفة دفينِه، فأنشدَ الناس:
عدوُّ الفوز يلقي ما تلقَّى من الوسواسِ، إذ هو ما ترقَّى
قال قطرُبُ: سمعتُ ضجيجَ أزهار المستقبل، ضلوا ارتقاء أفضل السبُل، يحاولون إسقاط المختار، ويهمُّون بإفساد سُمعة الأخيار، فافتروا وكذبوا، ولفَّقوا ما حسبوا، وقد أطلقوا على أنفسهم اسمًا منه الدنيا تشمئزُّ؛ لأنه شيء في أذنها مقزَّز؛ لأنه لا يعزُّ، فلما عرفتُ لهم كُنْهًا، لم أُبْدِ لهم بعد ذلك وَجْهًا، فأطلقتُ رِجِلي للريح فرارًا؛ لأنهم قد خبَّؤوا أضرارًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.