معلم بقي موشوما في ذاكرتي طوال هذه السنين، بشخصيته الفذة، وعشقه غير المتناهي للغة العربية، ودفاعه المستميت عن قواعدها الضابطة قراءة، تعبيرا، وكتابة. إنه نموذج فريد للمربي الفاضل والمعلم الأصيل الذي قلما يجود الزمان بمثله.
"السي عبد الكريم" هكذا كان زملاؤه ينادونه باحترام وتبجيل، رجل في عقده الخامس، يشع الوقار من محياه، وتبرز الأصالة من هندامه، أناقة جلبابه وبلغته تأخذ بالألباب، وتتلون بأشكال بديعة تناسب كل فصل.
كلما اقبل نتجمع حوله، نتسابق للسلام عليه، أحدنا يمسك محفظته، والآخر يسنده بكتفه، حتى يتوكأ عليه، فمعلمي من ذوي الاحتياجات الخاصة، إحدى رجليه أقصر من الأخرى، عادة نراه ممسكًا عكازًا خشبيًا مزركشًا، والبشاشة تطفح من وجهه.
في رحاب الفصل الدراسي هو شخص يجمع بين اللين والحزم، شعاره: "الانضباط واجب، والتعلم حق لكل راغب" يحرص دومًا على التواصل مع تلامذته بنسق عربي فصيح، وتجيد أنامله تنسيق أبجديات الخط العربي على السبورة، وغالبًا ما يحثنا على محاكاة جماليته، فكل متعلم شغوف مولوع بتقليد معلمه.
يتماهى عشقًا في نصوص الرواد من الشعراء، أذكر يومًا وهو يدرسنا قصيدة للشاعر العراقي معروف الرصافي، يقول في مطلعها:
لقيتها ليتني ما كنت ألقاها
تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها
أثوابها رثة والرجل حافية
والدمع تذرفه في الخد عيناها...
برع في إلقائها، وأفاض في شرحها. وفي حصة الاستظهار، أُعْجِبَ بصوت التلميذ "أحمد" الذي أجاد في قراءة النص الشعري بصوت موزون ومنغوم، فكال له المعلم المدح والثناء، وساقه فخرًا ينوه به أمام جموع الإداريين والمدرسين والتلاميذ، وأضاف ناصحًا إياه: "حافظ على صوتك الجميل يا ولدي، إياك أن تقرب المخدرات..."
لا يخفي معلّمي اعتزازه بتدريس مادة اللغة العربية، التي تبدو كالسماء صفاء ونقاء، وكالبحر اتساعًا وعمقًا. في رأيه أفضل دفاع عن اللغة العربية هو استعمالها، وإتقان علومها. وأكثر ما يقلقه هو الدعوة إلى العامية أو إحلال اللغات الأجنبية محلها، ونعت العربية بالعجز عن مسايرة ركب التقدم، وكثيرًا ما يستشهد في هذا الصدد بقول شاعر النيل حافظ ابراهيم:
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغايةً
وما ضِقْتُ عن آي به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ
وتَنسيق أسماءٍ لمخترعات.
وَعَبَّرَ عَنْ مشاعر فياضة تَنْضَحُ أسى ولوما على أبناء جلدتنا، من بعض المثقفين العرب، الذين استثقلوا قواعد العربية، وَهَوَّنوا مِنْ قَدْرِهَا... لهذا كان يحضنا على الاهتمام بعلم النحو، وبذل الجهد في تعلمه، والصبر على مسائله، وكان يردد على مسامعنا:
النحو زين للفتى. يكرمه حيث أتى
من لم يكن يعرفه. فحقه أن يسكت.
ويؤيد قوله بقول ابن رشد عن أهمية النحو: "وهذه الصناعة تسمّى أدبًا؛ لأنّه واجب أن يتأدب بها الإنسان قبل شروعه في العلوم وإلا شرع في تعلّمها وهو سيئ الأدب...".
وقد أكد لنا معلمي غير ما مرة، أن من غايات الدرس النحوي ضبط الأداء اللفظي والكتابي، وتجويد إدراك دلالات المعاني، حتى لا نقع في لحن الكلام. واللحن هو: "خروج الكلام الفصيح عن مجرى الصحة في التركيب والإعراب".
ولذلك انتقد معلمي من أصاب لسانهم خلل لا يستقيم معه بيان، وَشَبَّهَ مَنْ يلحن في كلامه، ومن يلتزم بالفصاحة قائلاً: "وهل تستوي البغلة العرجاء والفرس؟!..." واستعار قولة شهيرة لعبد الملك بن مروان مختتما بها: "أَصلِحُوا أَلسنتكم فإنَّ المَرءَ تنوبه النائبة فَيستعير الثَّوب والدابةَ، ولا يمكنه أن يستعير اللسان، وجمال الرَّجُل فصاحتُهُ".
وكان يوصينا وصية من يحمل رسالة يود تبليغها: "أشيعوا الفصاحة، فإن العربية حارس هويتنا، وقوام قوميتنا، ووعاء حضارتنا وتراثنا..."
رحِمك الله يا معلمي، ما أعظم محبتك للغتك، وتفانيك في عملك! كنت بالفعل قائدًا تربويًا ومعلمًا ملهمًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.