أهلًا أهلًا صديقي العزيز،
كيف حالك اليوم؟
- بخير، نحمد الله على كل حال.
أرى في وجهك عبوسًا لم أعهده من قبل! لا بد أن لديك ما يشغلك من هموم؟
- ليس إلى هذا الحد يا عزيزي، لكن استيقظت اليوم من نومي ليباغتني العمر، أنني قاربت ستين عامًا وكأنني في حلم غير مصدق ما حدث لي. لقد انفرط مني عقد عمري دون أن أشعر به. إنني غير مستوعب كيف حدث ذلك؟ ومتى؟ وأين؟ لقد تغير كل شيء من حولي؛ الصغير كبر، والكبير هرم، والشباب ولَّى، والدنيا تفرقت بنا وبمن حولنا. ومن كان منا قريبًا ويؤنس وحدتنا وحياتنا تركنا ورحل، ومن كان في فراغ انشغل عنا. عجيب أمر هذه الدنيا يا عزيزي، أليس كذلك؟
هون عليك يا صديقي.
أتفق معك تمامًا أن هذه الدنيا عجيبة، وأعجب ما فيها مراحلها الثمانية التي تتسرَّب من بين أيدينا وتنقضي. وقد تختلف تفاصيلها من إنسان لآخر، لكن في النهاية تتشابه جميعها. وها أنت قد تخطيت ست مراحل منها وتعيش السابعة، ولم يبقَ لك سوى الثامنة، ولكن عقلك وقلبك لا يريدان أن يصدقا.
- هل هي دعابة يا عزيزي؟ فقد اعتدت منك ذلك. أراك تبتسم؟!
ليست بدعابة يا صديقي، ولكنها الحقيقة التي نغفل عنها جميعًا حتى نفاجأ بمرور العمر. إن حياتنا تمر بمراحل دون أن ننتبه لها.
فإذا نظرت لبدايتها، فسوف تجد أنها تبدأ بنا من مرحلة (اللاوعي).
وأحسب أنها من أجمل مراحل الدنيا، فهي تجمع بين الطفولة والصبا، بين البراءة وسلامة النوايا. فهي مرحلة يكون عقلك فيها بعيدًا عن قسوة الدنيا ومرارتها. ومهما كانت صورة طفولتك وصباك، سواء كنت تعاني من فقر أو حرمان أو تأثيرات بيئية سلبت منك بعضًا من ملامح طفولتك وصباك، لكنك ستكتشف أن مساحة سعادتك فيها كانت كبيرة. فقد كنت تعيش فيها بخيالك ونقاء عقلك وسلامك النفسي الذي كنت تحتفظ به قبل أن يعكر صفاءه تعاملات البشر وصراعات الدنيا الواهية. لذا، فتلك المرحلة هي من أجمل مراحل حياتك التي مرت عليك دون أن تستشعر مرورها.
وفور خروجك منها تجد أقدامك تخطو بك لتدخل مرحلة (الانبهار). نعم، الانبهار، فهي مرحلة الشباب وزهوه، وطاقة الإقبال على الدنيا بكل ما فيها. فتسعى وتجِدّ وتجتهد، وتعمل وتبحث عن ذاتك، ويرتفع سقف أحلامك، وتزدهر طموحاتك، وتتسع علاقاتك ومعاملاتك. وترتبط بأصدقائك فتمنحهم الوقت أكثر من عائلتك التي نشأت فيها، ليس عن قصد، ولكن لتشابه تلك المرحلة بينكم. ولكن ما تلبث حتى تتفرق بكم السبل لتدخل مرحلتك الجديدة: مرحلة البحث عن السعادة.
هي مرحلة تبحث فيها عن نصفك الآخر ليشاركك حياتك، لكي تعيد بناء الأسرة التي كنت تعيش فيها في السابق في أحضان والديك في مرحلة اللاوعي والصبا والشباب.
في تلك المرحلة يا صديقي، يبدأ انفراط عقد عمرك لأنك تدخل في مرحلة الغفوة. إنها غفوة عقلك في خضم طاحونة الحياة، فتُستنزف طاقاتك وعمرك وأيامك وشبابك، بل سنوات حياتك كلها. فقد أصبحت أبًا، وشريكتك أمًا، وأنتما الاثنان تتشاركان الحياة ومشقتها في بناء أبنائكما. إنها غفوة مرهقة، ولكنها تسلب منكم الكثير حتى تسمع أجراس الزمان، فينتبه عقلك يا صديقي... فتجد نفسك على ما أنت عليه الآن وقد قاربت الستين عامًا، لتعيش مرحلة الصدمة التي تكتشف فيها فراق الأحبة. فتجد الدنيا خالية من حولك، فقد رحل الأب والأم والكثير من الأقارب والأصدقاء، وانشغل أبناؤك بحياتهم لتجد نفسك في انتظار مرحلتك قبل الأخيرة: مرحلة ما قبل الرحيل.
إنها التعايش مع وحدتك، فتعيش مع ماضيك وذكرياتك. إنها من أقسى مراحل حياتك صعوبة، لأنك أنت فقط من يشعر بها. أنت من عاش تفاصيلها بحلوها ومرها، بصخبها وهدوئها. إنها مرحلة تجاهد فيها في محاولة يائسة منك أن تعيشها كما كانت في سابق حياتك، ولكن هذا هو المستحيل يا صديقي، لأنك هنا تتحدى الزمن! الزمن الذي مر عليك وأنت في غفوتك.
- مهلًا مهلًا يا عزيزي، لقد بعثت في نفسي اليأس!
لكنها الحقيقة يا صديقي التي يحاول أنا وأنت، بل الجميع، الهروب منها. فنحاول أن نصنع لأنفسنا مشاغل أخرى تُلهي عقولنا عن التفكير والتذكر الدائم لسنوات العمر التي مضت. ولا تظن أني أثنيك عن أن تعيش حياتك الباقية، ولكني أصارحك بما أنت فيه الآن وما آلت إليه الأيام معك، حتى تدرك أن ما هو قادم ليس بمقدار ما مضى من حياتك.
- أحسنت يا عزيزي، لقد صارحتني بما كنت أخاف أن أواجه به نفسي. ولكنك ذكرت لي سبع مراحل، وقد قلت لي إنهم ثمانية!
تقصد مرحلة النهاية؟
- هل اسمها النهاية؟
نعم يا صديقي، ولكن ألا ترى معي أن قطار الرحلة قد اقترب من محطته الأخيرة؟
- لقد فهمت ما تقصده.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.