هل كانت السعادة تكمن دومًا في أحبابنا، أم أننا أوهمنا أنفسنا بذلك؟ ظللتُ أردد هذه العبارة وأنا أتجول في الشوارع القديمة لمدينة الشعر. كنتُ أنظر إلى الأصدقاء في اجتماعاتهم، أراقب دفء مودتهم، وأستمعُ إلى مغامراتهم الحية التي تنعمُّ بسكينة السند ودفء العشرة الطويلة.
ثم أُحوِّل بصري إلى العائلات المتجمعة في الحدائق العامة، حيث يركض الأطفال ويلعبون، وتعلو ضحكاتهم بأنغام تتردد صداها في القلوب والأبصار. كم وددت أن أنضم إلى هؤلاء، أو أولئك.
لكنني تابعت مسيرتي حتى وصلت إلى شارع خالٍ من تلك البهجة التي رأيتها في الأمكنة الأخرى. كان مظلمًا، بلا حدائق، بلا أصدقاء، تنتشر فيه القمامة، ويحيط بها الذباب من كل صوب.
سرت في عروقي غربة، كضيفٍ ثقيلٍ في مسرحٍ مهيب، أُحاول المرار، بهمةِ الكرام، وعزيمةِ الأحرار. وفي أحد الأركان، رأيتُ مشهدًا أدمى قلبي وأفزع روحي. رجلان يتصارعان، يتقاذفان الشتائم كأنها حجارة ملتهبة.
بقبضةٍ غاضبة، دفع أحدهما الآخر إلى الأرض، ثم انحنى ليلتقط صخرةً ضخمة، وعيناه تقدحان شررًا. أدركتُ حينها أن الموت يترصد ذلك المسكين. ركضتُ بكل ما أوتيت من قوة، ويداي تلوحان في الهواء كغريقٍ يستنجد وبأعلى صوتي: "توقفوا! أرجوكم توقفوا!"، لكن القدر كان أسرع مني. فما إلا لحظات حتى غطت وجهي وملابسي الدماء.
أيُّ عالمٍ هذا الذي نعيش فيه؟ وأيُّ صداقةٍ تلك التي تنتهي بجريمةٍ بشعة؟ لم أعُد أرى سوى الضباب والدماء، ورغم تشوه المكان واختلاط الزمان دفعني شيء ما للاستمرار.
انقضضتُ على القاتل، قبضتاي تغوصان في قميصه كأنما أريد اقتلاع قلبه. صرخت: "لماذا قتلته؟ ماذا فعل ليستحق هذا المصير؟"
نظر إليَّ بعينيه الزرقاوين، فوجدتُ فيهما مزيجًا من الدهشة والرعب. استشعرتُ جسده يرتعش كمن يعاني وطأة كابوس ثقيل، وعيناه تتابعاني كأنهما تريان شبحًا. تمتم بصوت مختنق: "نجينا... يا الله!". ثم دفعني بكل ما أوتي من قوة، لأجد نفسي مُلقى بجوار جسدي المسجى من عبث الأقدار والزمان.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.