كثيرًا ما نستهلك أوقاتنا سدى دون أن نحظى بمتعة للتأمل، بل غالبًا ما نهدر زمنًا كنا نملكه ربما بلا حقٍ ولا إنصاف مقبول.
ومع ذلك نتوهم بأننا نحسن التصرُّف، وقد نتباهى في تصريف أوقاتنا المتوفرة ما بين ما نحلم به آجلًا وما نود الحصول عليه على عجل، غير مباليين بأن قطار الزمن لا تذكرة له؛ لأنه لا ينتظر أحدًا مهما كان شأنه، ثم إن أردت ركوبه، عجلت باللحاق به مع احترام مواعيده..
وأما السفر على متنه فواجبه استعدادك ورغبتك.. الشيء الذي يجعلك أهلًا بنوع وصنف إحدى قاطرته، وهنا قد يلعب الحظ أحيانًا دوره لصالحك، أما الصدفة فنادرة؛ لأن لا شروط لها ولا قيود لها كذلك، فإما أن تكون بطلًا أو لا...
وهكذا فقد ترتبط مهمتك به بما تحمل معك من أدوات ومعدات وكذا خارطة الطريق، لتقوم بما قد يطلب منك أو ربما قد تكون محظوظًا، لتجتمع بشخصٍ أو بأناس لكي تتمكَّن من الاستثمار في معارفهم أو في نطاق خدمات بالمقابل، إلى غير ذلك من تبادل خبرات تشاركية في مجالات عدة..
وعليه فقد يكون نصيبك أوفر أو أقل. المهم، أن تخول لك هذه التجربة ربح قسط من العملية مهما كانت قيمتها، ما قد يكون لديك دفعة إيجابية في اتجاه نجاحك. وبالتالي سيرفع هذا من معنوياتك لمواجهة تحديات أخرى، وأنت صاحب رصيد لا بأس به في عالمك الجديد، لا على مستوى النفسي وحسب، بل حتى من الهامش المادي أيضًا. لهذا، وجب أن تتوفر أساسًا على كفايات معرفية مصقولة، بقدر من التجارب في ميدان أو أكثر في جل المجالات المتاحة أو المطلوبة بفضاء محيطك على الأقل...
وهكذا، فلكل أهدافك بهذه الدنيا البائدة على نمط مجتمع القطيع، الذي لا يرى من جوانبه إلا ما يحوم من حولك، فتمشي على درب من سبقوك من باب التقليد الأعمى. أو لمجرد أنه لا اختيارات لك به على الإطلاق، فتجد أن أسعد لحظاتك هي تلك التي تلبي فيها احتياجاتك الخاصة، ككائنٍ مستهلك لكل طاقاتك في سبيل إشباع جوعك الفطري كأي حيوان من دون استثناء. وتبقى أسمى غاياتك أن تمتلك زمام أمورك المادية، لتتفرغ للمتعة واللهو مع أو بعيدًا عن باقي القطيع.
وقد تحتفظ بمن يذكون فيك إحساس القوة والسلطة، معتقدًا أنك بذلك قد ملكت فضاءك وتنسى بأنك ما زالت تحت رحمة مالك السماء والأرض...
وهناك غيرك، وهم قليلون من الذين يستحوذ عليهم تفكيرهم في بناء مستقبل زاهر، لكن بعد جهد وصبر ومثابرة، أما طاقتهم المحركة لهم فهي الحاجة إلى المعرفة وليس الرغبة في الاغتناء. وعمومًا، لو رسمنا مبينًا على شكل هرم بشري، فإننا سنجد أنقاعدته يملأها عامة الناس، كما هي في مستعمرات النمل، فمنهم عمال ومستخدمون وموظفون صغارا.
أما الطبقة الوسطى، فهي للمحظوظين الذين "لا يسألون من أين لك هذا؟" كما هي الحال كذلك لدى مجتمعات النمل والنحل، الذين يحرسون ويخدمون أسيادهم ومالكيهم بكل تفانٍ وإتقان، ثم هناك أصحاب الجلالة والسمو، الذين يتربعون على الثلث الأعلى من الهرم. وهم أوفر حظًا مما سبق؛ لأن لهم كل ما يشتهون بل أكثر مما قد يحلمون به أحيانا. ومنهم من قد يردد قوله " هذا من فضل ربي " وبدون شك لهو نفس رأي ملكات النحل كذلك.
وهناك جماعات كثيرة كذلك، تؤمن بالحرية من زاويتها السامية، أي أنهم يعيشون على هواهم لكن بدون أن يفرطوا في معاملتهم لها. وسط باقي الحشود البشرية وهم حكماء، بحيث لهم حس إنساني فريد، وهنا قد استحضر مجتمع البطريق، كمثيل لهؤلاء من بني البشر، الذين ينعمون دون غيرهم بأوصاف حميدة، لكونهم قد تمكنوا من إيجاد ذاك التوازن المفقود لدى كثير من سكان الهرم البشري...
يكفيك أن تلاحظ أفراد مجتمعك كل على حدة أو جماعة وأقصد بالملاحظة، تلك التي ترى بعين العقل لكل حركة أو سكون لأي شخص ما، وقد لا تنفع أحيانًا تلك الدراسة الدقيقة لماهية الأشياء فقط. بل، يجب ألا يستهان بأية ردود فعل لفظي أو حركي أو هما معًا أو شيء من هذا القبيل؛ لأنها تُعدُّ عبارة عن جواب ساكن ربما لسؤال مدوٍ..
فإما تنتج عنه صاعقة صدمة وإما ثورة صاخبة؛ لأن البشر كباقي الكائنات الحية على اختلاف أصنافها وأشكالها بالفطرة يستشعر بأحواله معتمدًا ليس فقط على حواسه الخمس، بل إنه يتفوق عليها بالحكمة أحيانًا وبالحيلة في الأخرى.
وقد يتفاعل مع أي حالة حسب مزاجه إن كان صحوا، وقد ينقاد عفويًا إلى ما يجهل، أو أنه قد يتأثر بصدى صدمة ما فتجده لا يفقه شيئًا حينها، إلا إن كان يملك تلك الملكة أو تلك القدرة على ضبط النفس، ونسج خيال بارع لمسايرة للحظة وكما يتماشى وما يطلبه الظرف والحال.
فنادرًا ما نتساءل هل كان علينا أن نسلك طرقًا غير التي اخترناها ؟ وهل كان لا بد أن نحيا التجربة نفسها التي مررنا بها من قبل؟ أما كان من الممكن أن نغير المسار بأيدينا ؟ أم نحن من لم نحاول حتى؟ أم أنه مهما فعلنا، كان قدرنا مسطرًا قبل مجيئنا إلى حيث نحن، أي أنها مسألة وقت وكفى.
ثم هناك مسألة المكان، الذي يفرض نفسه على الحال، فنجد أرواحنا مقيدة بقوانين خارج فضاء إدراكنا. لهذا غالبًا، ما نستسلم لمجابهة مصيرنا بدون البحث عن أجوبة مستعصية لا على الفهم فقط، بل علينا إيجاد ردود أفعال مناسبة. فلا نحن نقر بضعف بصيرتنا، ولا أيضًا نسمح لأنفسنا بأن نخوض تجربة بدون دليل ولا قرار ثابت.
مهما كانت، فهي خيارات متشابهة فقط إنها متباعدة الأزمنة والأماكن. وبهذه الملاحظة البسيطة، قد نستخلص بأننا قسمنا أو جزءًا ما لا يتجزأ، ألا وهو عامل الزمن، لربما كي لا نتوه ما بين زمن الكون غير المحدود وتلك الفترة القليلة جدًا، التي نلصقها بعدد سنوات أعمارنا وما تحملته أجسامنا وأرواحنا من مختلف أصناف المعاناة والمحن في سبيل البقاء على قيد الحياة ولو لمدة قصيرة، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بشكل تصرفاتنا بكل عناية وثقة وأمل في غدٍ أفضل.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.