معاناتي عندما أرى وطني الذي أحبه تقطعه المصالح والانتماءات، وعندما أريد الانتقال من مدينة إلى مدينة كأني انتقل إلى دولة أخرى رغم أنها كلها بلدي..
ولكن للأسف تقاسم السفهاء أشلاءها، واستعبدوا أحرارها، وأذلوا أعزة أهلها، واستصغروا حكماءها، وأجاعوا أهلها، وبات الموت فيها أمنيتهم..
فحلمنا أن نموت بسلام فقد جار فيها اللئيم، وأُهين الكريم، وأُحلَّ الحرام.
في بلدي أصبحت غريباً، هل تعلمون لماذا؟
ليس لأني غبت عنها طويلاً، ولم أعش في بلاد الغربة طويلاً، بل ما زلتُ لم أغترب خارجها أكثر من شهر، ولكن تعددت الرؤوس في بلدي، وسادت العداوات بين تلك الرؤوس..
فكل رأس يدّعي أنه رأسها، وكلهم يطعنون جسدها، ويقطِّعون أشلاءها، ويعاقبوننا لأننا أبناؤها، بلدي فقدت الذاكرة فقد ضربوا رأسها ليكونوا مكانها.
أتعرفون لماذا أنا غريب في بلدي؟
لأن من تسلطوا عليها أنكروا وجودنا فيها، وأي طرف ذهبت إلى جواره يدّعي أني عدوه وأني متحالف مع الطرف الآخر، فذاك يسجنني وذاك يحقق معي وهذا يعرقلني.
بلدي الملقب بموطن السعادة أصبح منتجع الأحزان، بلدي موطن الخيرات سادت فيه الشرور والظلمات، موطن الحكماء تحكّم فيه السفهاء والجهلاء، وكلهم يقول إنه الحاكم الحكيم، وأن الحكمة ما سميت هكذا إلا لأن فيها بلدي وأنا فيها غريب.
أعمل مرغماً دون أجر، فممنوع أن أتكلم إلا إن كنت مطبلاً لمن عاثوا فساداً، كلهم جاء ليصلح موطني وكلهم نشر فيها الخراب، أجوع فيها، وإن تكلمت قالوا" احمد ربك أننا قبلناك، وكأنها تركة ورثوها..
إن ذهبتُ إلى الجنوب ينظرون إليّ وكأني شيء جديد أو عدو شديد أو نكرة ظهرت في غير مكانها، وإن سكنت الشمال ينظرون إليّ بريبة كأني خائن بجوارهم..
بالمختصر وطني ما عاد للشرفاء فيها إلا الخوف والجوع والانصياع واحتمال تبجح أهل الأهواء، بلدي غدا مكبلاً يسوقه أهل الأهواء ويموت فيه الأخيار، مرضى من الجوع والعناء وانعدام الدواء وتسلط الخوف عليهم.
أصبح الطيبون يبحثون عن الرحيل، فاستساغوا ألم الغربة وويلاتها لكثرة ما عانوا في بلادهم..
فقد هانت كرامتهم بأرضهم، وسلب حقهم أمامهم، وباتوا بين ثلاثة خيارات: إما أن تكون معي فتقاتل حتى تموت أو ضدي فتعذب حتى تموت أو تترك ما عندك لي وترحل من عندي والكل يبحث هناك عن الرحيل.
هناك ستجد آلاف القصص الحزينة، وملايين الصيحات المتألمة، والكثير الكثير من البطون الجائعة.
تخيل نحن جائعون في أرض لو أخرجت خيرها لأغنت شعبها والشعوب المجاورة، ولكن دُفن خيرها بغبار صراع اللصوص عليها، فلا أكلوا ولا أكلنا ولكنهم عاشوا ونحن متنا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.