كانت أحلامي فوضوية؛ لم يسعفها الحظ لترتب نفسها، علمتُ بذلك مؤخرًا، حاولت ترميم ما تبقى من نفسي، لكن دون جدوى؛ لأن الأوان قد فات لفعل ذلك.
أما أنتِ يا جميلتي فقد كنتِ الخاسر الأكبر، كنتِ قربانًا للأيام العبثية التي نحياها، أردتِ أن تكوني ضوءًا ساطعًا في ظلمتي، لكن الفوضى العارمة التي كانت تجتاحني أخمدت ذلك الضوء، لتكوني نجمة في سماءٍ لم يصلها ضوء القمر، ويضاف إلى أوجاعي ذنب جديد.
حاولتُ جاهدًا أن أعفيكِ من عبءِ عليك، ولكن فشل هذا الأمر أيضًا، لا جدوى من المعارك التي أخوضها سوى جرح جديد يُضاف أيضًا إلى قائمة خيباتي، ويحمله جسد منهك لا يجد للراحة طريقًا يسلكه.
رفضتْ جولييت خيباتها في الوصول لمن تحب فانسحبت من الحياة بكبرياء، وأدرك روميو خسارته لها في الحياة فتبعها بذات المركب ربما هناك سينتصران..
أما مركبنا مختلفٌ يا جميلتي، فأنتِ مقبلة على الحياة، وأنا مودعٌ لها، أنتِ مفعمة بالإشراق، وأنا منطفئ تمامًا، لا يمكن لكلانا أن يلتقي، أنتِ الشروق وأنا الغروب.
تقولين لي: لماذا لا تكتب قصصًا رومنسية، لماذا جميع كتاباتك حزينة ومكتئبة!
وكنتُ أتهرب من الإجابة دائمًا، لم أشأ أن أدخلك في دوامتي العبثية والفوضى التي تجتاحني، وكنتُ أدرك كم كنتِ رقيقة جدًا فخشيتُ أن أخدش قلبك الطفولي الذي لم تلوثه خباثة الحياة.
ولربما خشيتُ أن أعري مشاعري أمامك فتدركين أني لم أعُد أصلح عصًا بيد راعٍ يهش بها على غنمه، أما الآن وقد أسقط خريف الحياة آخر وريقاتي وشارفت الحياة على بصقي نهائيًا، سأجيبك عن تساؤلك ذاك.
يا جميلتي إن الأموات إما في سعادة أبدية لا تزول وإما في شقاء أبدي لا يزول، وأنا ميت يا جميلة، جثة وإن كنت أسير على قدمين، أحمل أوزار وشقاء من سبقوني فوق كاهلي وأحاسب عنهم جميعًا.
فكيف لمن كُتِب عليه الشقاء أن يتحدث بلغة أخرى، أتذكرين يا جميلتي قول الشاعر إدريس جمّاع الذي كنت أردده لكِ حين قال في شعره:
إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاةٍ يوم ريح اجمعوه
عظم الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه
إن من أشقاه ربي، كيف أنتم تسعدوه
وهذا هو أنا يا جميلتي!
هل تعلمين أيَّتها الجميلة أن هذا الشاعر قد فقد عقله وأصيب بالجنون وأمضى بقية حياته بمصحة للأمراض العقلية..
إن العقل قد يكون نقمة على صاحبه، الذي لا يتوقف عن ضخ الأفكار، الذي يدرك أدقَّ التفاصيل، دائمًا ما يكون هناك نقطة تحول في حياة الإنسان، والشخص الذي لديه قوة إدراك، إما أن يصاب بالجنون كما حال شاعرنا أو يتحول لكتلة من الصمت كما أنا هو عليه الآن.
يا جميلتي، إننا نحصي أيامنا فقط، لم نعُد نشعر باللذة تجاه أي شيء، الألوان جميعها أصبحت باهتة، الفوضى تملأ ما حولنا حتى أصبحنا عاجزين عن ترتيب أي شيء، تسلَّل الملل خلسة واختبأ في زاوية حياتنا، واغتيل الأمل بدمٍ بارد.
ومن المؤسف يا جميلتي أن يكون كل شيء فينا يبكي ما عدا عينانا جاحظتان وكأننا خلقنا من رماد من ماتوا قبلنا.
الحياة يا جميلتي مسرحية هزلية ساخرة أو أشبه بحفلة تنكرية ضخمة جدًا.
الحياة يا جميلتي كذبة والصادق لا يستطيع الاستمرار بها، فإما أن يجن أو ينسحب منها بكبريائها، جميلتي لو كنتُ أعلم كلمةً أعمق من كلمة انطفأت لصرخت بها، لكنني لم أشعر من قبل بانطفاء روحي كما هي الآن.
أنا لست سوداويًا يا جميلتي لكنه هو الواقع، الواقع الأسود، لقد كنتُ أريد الحياة، الحياة فقط يا جميلتي، ففتحت لها نفسي، لتتسارع الأيادي وتنبش آلامي.
يا جميلتي: قد كنّا خفافًا
لا علينا ولا لنا!
لكنها تصاريف الحياة عبثت بنا
أنكرتني حين التفتُ أُريدُني
أنكرتني..
فما عدتُ أدري من أنا؟!
إلى اللقاء يا جميلتي، إلى حياة أخرى نستظل بظلها، ولنتبع من سبقونا، أما هذه الحياة، فلم نستطع إليها سبيلًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.