دائمًا ما تكون أغلب البدايات جميلة، فكل مرحلة من مراحل عمرك وحياتك يختلف شكلها وتفاصيلها عن الأخرى: الطفولة، الصبا، الشباب، النضج، وبالتالى تتغير بداخلك أشياء كثيرة عبر تلك المراحل.
ولكن تظل ثوابت التنشئة هي المؤثر الأكبر على حياتك المستقبلية بحلوها ومُرها، بخيرها وشرها، بثوابت الأثر الطيب فيها ونواقص الصفات الحميدة التي لم تتعلمها.
ولكن من المؤكد أنك مع كل مرحلة جديدة تجد تغييرًا يحدث بداخلك، يؤثر فيك وينعكس على نفسك وعلى من حولك، سواء أكان هذا التغيير في سلوكياتك أم ردود أفعالك أم حتى اهتماماتك ببعض الأشياء وتجاهلك للبعض الآخر.
وحتى في علاقاتك وصداقاتك، فهي لا تستمر على وتيرة واحدة، بل قد تقل أو تزيد، وقد يتوطد بعضها ويتهمش البعض الآخر منها.
وتجد بعض تعاملاتك منفتحة والأخرى تغلفها الدبلوماسية أو المجاملات... إلخ، حتى إنك تشعر بكل تلك المتغيرات التي حدثت في تكوينك الشخصي.
فإذا كنت من الناس التي تحلل أنفسها بصدق ويواجهونها ويراجعونها دون تجميل فسوف تجد نفسك تقف طويلًا أمامها وتتوارد بذهنك أسئلة كثيرة عن أسباب هذا التغيير.
وسوف تجد نفسك فى مواجهة مباشرة مع كل مرحلة تحاسب فيها نفسك بهدف التقويم والإصلاح وليس بهدف جلد الذات أو التماس الأعذار لنفسك بدون تبرير أو أسباب؛ حتى لا تجد نفسك ترتدي لباس الكِبر دون أن تشعر.
لذا فتجارب الحياة تجعلك تكتشف نفسك وتكتشف كثيرًا من أبعاد وصفات الآخرين، وليست كلها بالطبع.
ولكن أمام نفسك فأنت الوحيد الذي يستطيع أن يخلع عنها كل ما يغطيها، فيراها دون ألوان أو تجميل ومن ثم تصل بذاتك إلى حالة من الاتزان النفسي فتجعلك في حالة من الرضا بشكل كبير، فتضع الأمور في نصابها حتى تصل بسفينتك إلى نهاية رحلتها.
وهذا عكس من يعيش دون مكاشفة لنفسه أو محاسبة أو معالجة لتصرفاته وأفعاله، ودون أن يسأل نفسه لماذا أنا هكذا دائمًا؟ وهذا ما يجعلنا نسترجع بدايتنا وكيف كانت نظرتنا للحياة قبل أن تعتصرنا تجاربها وتغيِّرنا إما للأفضل وإما للأسوأ.
فإذا عدنا إلى مرحلة الطفولة التي تغلِّفها الفطرة السليمة وتبعد كل البعد عن صراعات الحياة، فسوف تجد فيها نظرتك المحدودة للحياة وانحصار اهتماماتك وقلة احتياجاتك التي يرضيك أقلها وتسعد بها، حتى لو كان يوجد معاناة أو حرمان من بعض الأشياء.
ولكن برغم ذلك فقد تتكشف بعض صفاتك الشخصية خلال تلك المرحلة؛ ومن ثم فقد تلازمك عبر مراحل حياتك سواء أكانت صفات ذميمة أم حميدة.
ورغم توجيهات الأب والأم أو إهمالهما لك في تلك المرحلة لمعالجة هذا الجانب من تلك الصفات غير المقبولة فقد تظل ملازمة لك دون أن تشعر بها ثم تعاود الظهور بفعل تداخلات الجينات الوراثية مرة أخرى (وهذا ما أثبته علم الوراثة السلوكي).
وهذا بالطبع إلى جانب تأثير كبير من البيئة الخارجية وثقافتك الذاتية في المستقبل والتي إما أن تعزز من تلك الصفات أو تقلصها وتحد منها.
ومن ثم يُعد التعليم أولى مراحل البيئة الخارجية التي تتكشف فيها الحياة أمامك من خلال الاحتكاك المباشر، بدءًا بتأثير شخصية المعلم الذي قد يترك لك فيها صورة ذهنية سيئة أو صورة تؤصل فيك التبجيل والاحترام نتيجة لما أضافه لك.
كل هذا موصول بعلاقاتك وتعارفك من خلال زملاء الدراسة والتأثير فيهم والتأثر بهم، فتكتسب صفات وسلوكيات جديدة بعضها مقبول والآخر مرفوض أو غير مستحب.
وعلى ذلك دائمًا ما يكون الإتلاف النفسي والتوافقي بين الأفراد بعضهم بعضًا في هذه المراحل التعليمية يقتصر في دائرة الاتصال على صديق أو أكثر وقد تتوطد علاقاتهم منذ بداية تلك المراحل التعليمية ويستمر التواصل بينهم حتى بعد وصولهم لمراحل تكوين الحياة الأسرية.
وهذا وارد ولكنه محدود للغاية، في حين تقتصر علاقات البعض على كل مرحلة بذاتها وتنتهي أغلبها بنهاية المرحلة التي تفصل فيها طبيعة الدراسة الجامعية إلى أن تنشأ علاقات اتصال جديدة بالجامعة.
ثم تأتي مرحلة الخروج للحياة العملية التي يُطلق عليها مرحلة اكتشاف طبيعة العلاقات. ففي البداية لا تكون واضحة التفاصيل.
ولكن مع الوقت تثبت لك التجارب الحياتية والاحتكاك أن معظمها قائم على المجاملات فتجد التقارب في أوقات والتباعد في أوقات أخرى، ثم يصل الوضع بالبعض إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، ويوجد من لديه الطموح الوظيفى فيسعى جاهدًا للبحث في دائرة العلاقات فتكون علاقات التواصل المشروطة بالمنفعة.
وتلك الفئة تنقطع علاقاتها سريعًا إذا لم يجد أو تتحقق غايته التي يسعى لها، وقد تتشابه هذه المرحلة ببعض العلاقات الأسرية القائمة أيضًا على المصالح والمجاملات الزائفة والتي تتضح لك معالمها حينما تنقطع تلك العلاقات، لا لشيء ولا لسبب ولكن لأن نفوس البعض غير سليمة.
وهذا طبيعي؛ لأن النفس البشرية متغيرة ومتقلبة وتؤثر عليها عوامل البيئة المختلفة إلا من رحم ربي.
وفي النهاية تبقى خلاصة التجارب الحياتية.
فتوجد تجارب نخوضها بإرادتنا وباختيارنا ودون أن يفرضها علينا أحد، ثم نجد أنفسنا محاصرين فيها بقيود وشروط وحسابات لكل خطوة نخطوها؛ لأن نتائجها ستلازمنا، وقد يمتد الالتزام بها حتى نهايتها، وقد تكون محاولة الخروج أو الهروب منها بالغة الصعوبة.
فأنت مجبر على أن تسير فيها لأن محاولة الرجوع منها أمر ليس باليسير عليك وليس بإرادتك؛ فقد يوجد آخرون يشاركونك فيها؛ لذلك ادرس جيدًا خطواتك ومدى قدرتك على الالتزام قبل أن تخوض تجارب حياتك؛ حتى لا تظلم نفسك وتفرض عليها استكمال ما لم تكن ترغب فيه.
اقرأ أيضًا
مايو 25, 2023, 7:54 م
هذه فلسفة عميقة لتحليل النفس الإنسانية .. أحسنت أستاذ أحمد ... برجاء مطالعة مقالاتي المتواضعة وأطمع أن يفيدني بعض نقدك الموجه لمحتواها ..
يونيو 19, 2023, 3:12 م
شكراً لثنائكم الطيب لنا استاذنا الفاضل عبد الشافي... وعذراً لتأخرى فى الرد حيث كانت لدى مشكله فى الدخول الى صفحتى الشخصية
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.