استيقظت على صرخات مدوية وأصوات بكاء مرير، لم أدرك في تلك اللحظة هل استيقظت أم أنني في كابوس مريع، قطع حيرتي صوت أمي المبحوح المختفي وسط شهقات البكاء، الذي لا يكاد يُسمع، قائلة لي: إن أباك قد فارق الحياة.
بقيت صامتة فأنا في تلك اللحظة لم أكن قادرة على التمييز بين الحلم والواقع، لم أدرك بعد هول الخبر، كل ما في الأمر أني التزمت الصمت، لم أبكِ ولم أصرخ كما يفعل الكل، أحسست كان روحي سجنت في جسد غير الجسد الذي اعتادته، وبقيت على هذه الحالة طيلة أيام الجنازة، الكل لاحظ عدم تأثري، عدم بكائي، عدم إبدائي أي ردة فعل، كل ما فعلته في تلك الأيام هو الصمت.
في اليوم الموالي زرنا القبر وهي عادة معروفة عند كل العرب، إذ يذهب أقارب الميت لزيارة قبره في اليوم الموالي لدفنه، في تلك الليلة لم أنم ولم يغفُ لي جفن، بقيت مستيقظة إلى أذان الفجر، بعد الانتهاء من تأدية صلاة الفجر اتجهنا إلى القبر مباشرة، وما إن وصلنا حتى ارتمت أمي على تراب القبر والدموع تسيل على خديها وعيونها مجهدة ومتورمة من كثرة البكاء.
لم تستطع رفع رأسها من على القبر، كأنها تحضنه لآخر مرة، فقد كانت أمي تحب أبي حبًّا لا يخطر على بال بشر، كانت لا تنام إلا عند رجوعه واطمئنانها عليه وعلى سلامته ونتأكد أنه أكل وأنه أمامها.
كانت نظراتهما مملوءة بالحب رغم سنهما الكبيرة، ورغم مرور سنين على زواجهما، فإن كل من في مدينتنا الكبير والصغير يعلم بقصة حبهما.. كانا مثالًا للحب العفيف والطاهر، فقد جعل الله بين قلبيهما مودة ورحمة، فلا أذكر في حياتي كاملة أن أبي تشاجر مع أمي أو صرخ عليها، وكان يناديها أمام الجميع "اللبؤة"( أي أنثى الأسد ).
سرحت في منظر أمي وهي تبكى بحرقة على القبر، كأني مغيبة عن هذا العالم، ولم أفق إلا على صوت أخي معلنًا عن وقت العودة.
مرت 7 أيام وأنا على الحال نفسها، بدأت أمي تتخوف من وضعي وصمتي الدائم وجمود مشاعري اللافت للانتباه، فأنا في العادة فتاة مرحة تظهر كل ما في داخلها من غضب وفرح وحزن... إلخ، فطلبت من أخي أن يذهب لإحضار شيخ الجامع لكي يتلو علي بعضًا من الآيات من القرآن الكريم لعل حالي يهدأ ونفسيتي ترتاح، فهي كما قالت له غير مستعدة لتتلقى صدمة أخرى، فيكفيها فراق توأم روحها.
ومع حلول المساء أتى أخي بشيخ الجامع، وما إن وضع يده على رأسي وبدأ يرتل آيات من سورة البقرة حتى أحسست أن صدى صوته يسرى في داخلي بقوة، ويسحب روحي من بئر عميقة ومظلمة، شعرت أن السجن الذي كنت المحبوسة فيه قد انهار وتحررت روحي من جديد.
ودوت صرخاتي في المكان وانفجرت عيناي بالدموع، كل الألم والعذاب الذي كنت فيه قد خرج الآن، ومن كثرة البكاء والصراخ أنهكت ونمت والدموع في عيني.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.