أتذكر في طفولتي سعي الدؤوب للتعلم، كنتُ أرى أن التعلم هو الهدف الوحيد ذو المعنى، كنتُ كالكتاب الفارغ أمتص حبر الدروس لأخطها في كياني، وكنتُ أميز المعارف التي تشعرني بالنشوة فأدمنت الرياضيات والكيمياء والتعبير والشعر والبلاغة والفلسفة الدينية إدماناً أقرب ما يكون لإدمان الكحول.
فتراني أشتاق للغذاء العقلي منذ لحظات الاستيقاظ الأولى وفي خضم انشغالاتي أراني أتأمل الأفكار والتجارب وأربطها بالمعاني والمعارف.
كانت تلك نسخة أولية من نفسي بناءً على الظروف والجينات المُتوارثة، في مرحلة تالية، اختلف مسعاي فتوجهت لتعزيز علاقاتي الاجتماعية، تبنيت سلوكيات خالية من الأنا والأنانية من أجل خوض تجارب إنسانية فتشكلت نفس مختلفة في قالب جديد، وهكذا دواليك في كل مرة أسعى الخوض في تجربة من نوع مختلف يلزمني تبني مجموعة سلوكيات ومعتقدات ومهارات وتوجهات جديدة توفر لي تجربة متكاملة أصبح بها "نسخة" أكثر نضجًا وخبرة من نسخة نفسي السابقة.
نسمع من جيل الألفية كثيرًا من عبارات الحنين للماضي كـ"اشتاق لكوني طفلاً" أو "أنا لم أكن هكذا" عبارات تدل على إدراك هذا الجيل لتأثير تسارع الزمن على النفس البشرية، جيل الألفية هو الجيل الملزم بتزكية الطفرات العلمية والتقنيات الرقمية وفي الآن ذاته احتضان مسيرة البشرية والمحافظة على جذور تاريخها على هذه الأرض.
التطور الفكري والتكنولوجي السريع للجنس البشري حتّم على المرء تبني مرونة نفسية غير معهودة لمواكبة التغييرات الفجة ما بين نفسه القديمة ونفسه الراغبة في الانسجام مع العالم الحديث، ومع وصول الوعي البشري إلى طرق مبتكرة لتسخير نويّات الخلايا الحيوية وتقنيات النانو متناهية الصغر والموجات الكهرومغناطيسية اللا مرئية أصبح عقل الإنسان أكثر وعيًا بدقائق المادة، فأدرك الإنسان الحالي أنه يمكن لجسيمات سائلة صغيرة تنتقل ممن حولنا أن تسبب أزمات صحية وتداعيات اقتصادية مهولة كما حدث أثر جائحة كورونا بالتالي تجنبت البشرية كثير من الأمراض المهلكة وتمكنت من إطالة معدل العمر البشري.
كما أن تسلل الانترنت والإعلام في مجريات الحياة غيّر تصورات الناس عن العالم وبدّل مفاهيمهم عنه، من الناحية النفسية فالعمر السيكولوجي للنفس البشرية يعتمد على إحساسنا ببداية ونهاية التجربة، فتعرض الناس للقضايا العالمية وللخيالات السينمائية جعل الجماهير في حالة من التماهي الشعوري ووفر لهم تجارب نفسية وفكرية متجسدة في مستويات شتى، أتاح وجود الانترنت وصولاً إلى منتجات وأحداث سلبية وإيجابية مما أدّى إلى تراكم نفسي تجريبي وزيادة في العمر السيكولوجي المجتمعي عامةً.
تعدد الخيارات وتنوع سوق المنتجات، أيضًا، دفعت الشخص العادي إلى اتخاذ العديد من الخيارات في اليوم، فتعززت فكرة القدرة على خلق واقع مختلف باستمرار لتعدد الطرق الموصلة لمخرجات جديدة، هذه التجارب الحياتية الاعتيادية تدفع الفرد لتعددية في التجارب في وقت قصير قد لا يكون في حالة مناسبة لها.
من الجليّ أن هذا الجيل يمر بضغط نفسي لا سابق له، كلٌ محاسبٌ نفسه، مراقب لما يحدث للآخر ولما قد يحدث له في حال قام بعملٍ يجتذب الأنظار يتردد صداه في الإعلام ويتضخم أثره في أنحاء المعمورة من خلال الإعلام المرئي، وبدل أن يكون أثر عمله أثر الفراشة في هذا العالم يصبح كأثر طائر ذي جناحين ضخمين.
الإنسان الحديث يعيش في عالم واسع مليء بالمتناقضات التي لم يألفها، كم مهول من المعلومات والطرق المبتكرة، أصبح الإنسان مسيرًا تجاه منتجات وعيه الخاص، تتغير أولوياته باستمرار حسب مرحلته العمرية وحسب معطياته المادية، وأصبحت البشرية تعايش حالة من فقدان الاستقرار مهما توفرت عناصر الأمان.
وفي وسط الاحتمالات المستقبلية المختلفة الممكنة يبقى سؤالٌ محيرٌ قائماً.. هل من طريق أفضل؟
1 الإنسان بين الجسم النجمي والهالة. Egypt, Al Manhal, 2017.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.