خاطرة "كان أبي".. خواطر وجدانية

حقيقة يصادف المرء في حياته مظاهرًا كنا نعتقد أنها قد ولت وحتى مع الوازع الديني الذي أصبح منتشرًا والحمد لله، وأصبح الجميع يُدْرِكُ دينه وجميع أحكامه، وحتى المباح منه والمحظور، ومع ذلك نرى الإنسان الذي لم يُدْرِك ضالته بعد يضرب الأحكام جميعها عرض الحائط، فنراه قد أعطى لنفسه الحق أن يتصرَّف على هواه.

إن الموضوع الذي أقصده هو ظاهرة السخرية والكِبَر والتفاخر بالألقاب والأنساب، وهو يكاد يصبح مثارًا للسخرية؛ لأنه حتى الزمن حين كان البعض يتغنى بقبيلته أو حتى لقبه قد ولى، وأصبح معيار جودة الفرد هي أخلاقه وإنسانيته، هذا من الجانب الخارجي أو الظاهري إن صح التعبير، أما النوايا وعلاقة الفرد مع خالقه أفضل عدم الخوض فيها ولو افتراضيًّا؛ لأنها علاقة خاصة بين العبد وربه ولا أحد يستطيع أن يزايد في الموضوع.

وموضوعنا وهو كما أسلفت أن ما نراه اليوم بعيد كل البعد عن ما يدعو اليه الدين الإسلامي من تعايش ومساواة، لكن الإنسان ولأن لديه تلك النزعة الإستعلائية فنراه يترك جوهر الأمور ويتمسك بالقشور ،وأؤكد على عبارة القشور لأنها فعلاً قشور أمام هشاشة الإنسان الذي ترك الأصل وراح يتمسك بالأمور الزائلة التي لا تُسْمِن ولا تُغْنِي من جوع.

إن الموضوع أكبر من هذه الأمور البائدة؛ لأنه حين يبدأ المرء باستعراض عضلاته القبلية والعشائرية فمن الوهلة الأولى تكتشف أن ما يملكه من رأس مالٍ فقط هي الشكليات، أما المضمون فيكاد ينعدم أو غير موجود نهائيا، فنراه فارغًا من الداخل وحين يريد ملء هذا الفراغ يُخْرِج إلى السطح أسطوانة النسب والحسب، ويبدأ بتشغيلها لأنه لا يستطيع أن يطوَّر ذاته ويحسنها أو حتى لا يريد ذلك.

لكن لو نرى الموضوع من جانب آخر، فإنه يفوت فرصًا عديدة ليصنع ذاته ويعطي تلك النظرة المضيئة عن نفسه بدون أي إضافات، التي لم يكن هو حتى من المساهمين فيها، ويبقى يتغنى بها إلى أن تصبح قديمة، ولا أحد يلتفت إليها.

في الواقع موضوع النسب والحسب أصبح كبطاقة التوصية التي يلقي بها بعض المتسلقين، لكي ينالوا بعض الامتيازات التي هي أحيانًا ليست من حقهم، وقد تُسلب من آخرين هم أحق منها، لكن ولأن السطحية قد فعلت فعلتها أحيانًا فإن الأمور تصبح غير مستساغة ولا تدعو إلى الراحة، ومع ذلك فإن الواثق من نفسه وقدراته قد لا تنطلي عليه هذه الأمور ولا يلقي لها بالاً؛ لأنه في النهاية من يطفو على السطح هو الأخف والهش، أما ما يبقى في العمق فهو الذي له وزن فيبقى عميقًا وذو معنى، تمامًا كالمثل الشعبي الذي يقول "لا يبقى في الوادي غير حجارته" أي بمعنى في النهاية يبقى الأصل أما غير ذلك فيذهب.

واليوم أما آن الأوان أن نترك تلك الموروثات، التي شخصيًّا أمقتها أشد المقت؛ لأنها غير منصفة البتة للمرء الكفؤ، في الوقت الذي نرى الأمم المتقدمة، التي تُزَكِي عقل وفكر الفرد وتعتبره هو رأس مال وطنه ونفسه، فتراها تستخدمه في التطوير والازدهار الذي تصبو إليه؛ لأن الإنسان هو الذي يصنع مستقبله ويحدده، لا نسبه ولا ماله ولكن بعمله وإيمانه باللَّه.

يقول علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه:

كُن ابن من شئت واكتسب أدبًا

يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ

فليس يُغني الحسيب نسبتهُ

بلا لسانٍ لهُ ولا أدبِ

إن الفتى من يقول ها أنا ذا

ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة