خاطرة "قتلت يوم عرفت قاتلـي".. خواطر وجدانية

ما أصعب التعرُّض للأذى! والأكثر صعوبة هو التعرض للأذى على يد مَن عملت ليل نهار على حمايتهم مِن ذلك الأذى عينه، الأمر يتجاوز الوصف، ويتخطى كل حدود الخيال، هو أشبه بالسباحة في نهر مِن دماء نبلاء روما القديمة، حتى ينظف القاتل ما تلوث من ضميره بدماء ضحاياه، هي الحياة تغدر بالأوفياء، وتجازي الجبناء بما لم يحلموا به يوما... كم أنتِ ظالمة!

يعودُ غاليلي إلى الماضي القريب، ينبش فيه بمعاول الحنين والأشواق، لعله يجد ما فلت منه يومها، لعله يعثر على ما سقط منه بين زحمة الأفكار ومعارك المعيش، فيجد كلَّ ما لم يرد أن يصادفه مِن أحزان وعصيان، ولكنه لا يجد ما بحث عنه، لم يجد ما تخيَّل أنَّه لا يزال منتظرا إيَّاه: ألا وهو الحظ.

لأمير فلورنسا/إيطاليا رأي مبهر في مسألة الصدف والتخطيط، الفضيلة والاستعداد، وقد أثبت التاريخ صدق رؤياه في هذه المسألـة، فلا يزال الساسة وواضعوا الاستراتيجيات يعملون بنصائح ذلك الأمير الإيطالي حتى يوم الناس هذا، إذْ لم يكن مستغربًا أبدًا أن تصبح أوروبا على هذه القوة والجبروت صدفة دون استعداد مسبق.

ما قاسه أمير إيطاليا على قيام الدول وتوحيدها تحت راية واحدة، يقيسه غاليلي على النفس واضطرابات مكوناتها، ومدى قوة حضور إمكانية توحيد هذه الأطراف تحت لواء واحد، وليكن هدفًا وحيدًا، يسير على نور هداه الإنسان حتى يبلغ مآثر الحياة ودواعي النجاة، وهذا بالذات ما أصر عليه غاليلي بشكل يكاد يتخذ مظهر الغلو والتطرف.

نعم! هُم يرغبون برؤيتك تعيش في نعمة! ولكنَّ الأنانية الباتولوجية التي تسكنهم هي التي تجعلهم لا يرغبون برؤيتك تتبوأ مكانة تبدو لهم بالاستناد إلى قواميسهم المغبرَّة "أفضل منهم"، وهذه المعادلة هي التي تؤدي دور مصدر كافة المشاكل البنيوية التي توثِّق العلاقات القهرية ما بين القراصنة على أرض الجنة ما وراء البحر.

لا رادع لهؤلاء القراصنة يجعلهم يُلجَمون عن التصدي لأحلام أبنائهم وبناتهم بالخصوص، فالنفاق غلب على مواضع الدين ولبس عباءاته، والشرائع صارت تبني الأوهام كما تبنيها تلك الإنسانية المزيَّفة التي تلتهم الإنسانية بشراهة لا نظير لها، لا يوجد ما يقف في وجه تلك الآلة التي تسحق الأفئدة على أرض القراصنة كما تسحق تلك الصخرة حبات الزيتون الأصيلة، لهذا لم يبق أمام غاليلي إلاّ الحلُّ الأمثل والأخطر في الوقت نفسه.

عندما تنتشر ثقافة التفاهة والغباء بين الرعاع والدهماء، ستجد أنَّ المفاهيم قد بدَّلت جلودها دفعة واحدة، وقد صار الجاهل يجلس مكان العالِم، والمهبول يلتحف ثوب العاقل، صار سلطان الجيوب يغطي كافة العيوب، وأصبحت الوفاة تجلس على عروش معظم مظاهر الحياة، بعدها أخرج غاليلي رأسه مِن احدى نوافذ السفينة الخربة التي يستوطنها القراصنة صارخا: يا قوم؛ لكُم ديْدنكم ولي ديْدني! ليثبت فكرة أنَّ حكماء الصين القدامى لم يجانبوا الصواب والمقبول معًا حين قالوا: عندما أشير إلى القمر، الأحمق سينظر إلى أصبعي.

ما يخفى عن القراصنة على أرض الجنة ما وراء البحر، هو أنَّ لغاليلي القدرة على التأقلم مع معظم الظروف القاسية التي يشهدها في الحياة، وهذه نتيجة طبيعية بسبب الطريقة التي نشأ عليها متأرجحًا ما بين القسوة والضراوة، كما أنَّه يملك الشجاعة الكافية لأن يحمل نفسه على السير على درب الآلام الخاص به وحيدًا لو تطلب الأمر ذلك، فهو في آخر المطاف يدرك تمام الإدراك ما هو مقبل عليه.

الأذى جزء مِن الحياة مِثل الغدر تمامًا، ولولا صدق وأمانة وصرامة النبلاء لما كان الجبناء غدارين ومؤذين بهذه الطريقة الفجة والوقحة، وهذا ما يجعل غاليلي يوجه تحية صادقة لكلِّ أبناء الإنسانية الذين صدقوا في عهودهم، وتمسكوا بمبادئهم حتى ولو كلَّفهم ذلك السير على الجمر المتقد حفاة.

مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
مايو 29, 2023, 11:19 ص - محمد عبد القادر نوفل
مايو 29, 2023, 10:53 ص - عبدالمجيد ايت اباعمر
مايو 29, 2023, 9:50 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 29, 2023, 9:20 ص - ايمان عمر المصري
مايو 29, 2023, 8:26 ص - أيسل حسن قيطة
مايو 29, 2023, 8:01 ص - أيسل حسن قيطة
مايو 28, 2023, 7:53 م - وليد فتح الله صادق احمد
مايو 28, 2023, 2:19 م - نيفين عوض الله دميان
مايو 28, 2023, 12:25 م - اروى عماد شحادة
مايو 28, 2023, 8:06 ص - محمد عبدالكريم قاسم مصلح
مايو 27, 2023, 8:47 م - سيرين حسين سعيد
مايو 26, 2023, 7:22 م - عصام أحمد عبدالله عياد
مايو 26, 2023, 11:24 ص - أميرة محمد المحيميد
مايو 26, 2023, 10:39 ص - يارا فائز يونس
مايو 25, 2023, 12:55 م - مني حسن عبد الرسول
مايو 25, 2023, 9:26 ص - رشا يوسف علي
مايو 25, 2023, 7:41 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 25, 2023, 7:13 ص - محمديزن الياسين
مايو 24, 2023, 8:11 م - اسماعيل على لطفي محمد
مايو 24, 2023, 3:02 م - محمد أمين العجيلي
مايو 24, 2023, 2:46 م - نيفين عوض الله دميان
مايو 24, 2023, 11:13 ص - اسماعيل الخضر
مايو 24, 2023, 10:25 ص - نيفين عوض الله دميان
مايو 24, 2023, 9:47 ص - عائشة صلاح الدين
مايو 24, 2023, 7:57 ص - احمد ايت علال
مايو 23, 2023, 12:27 م - اسماعيل الخضر
مايو 23, 2023, 11:54 ص - محمد العيادي
مايو 23, 2023, 9:17 ص - مدبولي ماهر مدبولي
مايو 23, 2023, 7:57 ص - لطيفة محمد خالد
مايو 22, 2023, 8:46 م - نيفين عوض الله دميان
مايو 22, 2023, 8:39 ص - عبدالشافى هلال
مايو 21, 2023, 4:42 م - ياسر عبدالحميد محمود سلطان
مايو 21, 2023, 11:53 ص - محمد بخات
مايو 21, 2023, 11:41 ص - مدبولي ماهر مدبولي
مايو 21, 2023, 9:30 ص - أميرة محمد برغوث
مايو 21, 2023, 8:29 ص - مني حسن عبد الرسول
مايو 21, 2023, 7:57 ص - أميرة محمد برغوث
مايو 21, 2023, 7:50 ص - محمد بخات
مايو 20, 2023, 7:15 م - محمد بخات
مايو 20, 2023, 7:07 م - عايدة عمار فرحات
مايو 20, 2023, 2:33 م - ياسر عبدالحميد محمود سلطان
مايو 20, 2023, 9:36 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 20, 2023, 8:27 ص - لطيفة محمد خالد
مايو 20, 2023, 8:06 ص - محمد سيد عبد الفتاح
مايو 19, 2023, 9:11 م - محمد الحقاوي
مايو 19, 2023, 8:20 م - شيرين زين العابدين
مايو 19, 2023, 7:42 م - عبدالمجيد ايت اباعمر
مايو 18, 2023, 10:31 ص - اسيل ممدوح لمع
مايو 17, 2023, 11:46 ص - جوَّك آداب
مايو 17, 2023, 9:29 ص - أميرة محمد برغوث
مايو 17, 2023, 9:20 ص - اسماعيل على لطفي محمد
مايو 16, 2023, 7:20 م - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
مايو 16, 2023, 5:02 م - لطيفة محمد خالد
مايو 15, 2023, 8:39 م - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 15, 2023, 5:34 م - زبيدة محمد علي شعب
نبذة عن الكاتب

مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو