ليستِ الكتابةُ صَنعةً يمارسُها الإنسانُ كما يزاولُ أيَّ عملٍ أو حِرفةٍ، على الرَّغْم من أنَّ الإبداعَ لا يقتصرُ على الكتابةِ والتَّأليفِ الفكريِّ فحَسْبُ، وإنَّما قد يكونُ النُّبوغُ في أيِّ مجالٍ من مجالاتِ الحياةِ المختلفةِ.
ولهذا وجدْنا عبقريَّةَ الإنسانِ تتجلَّى في ميادينِ الزِّراعةِ والصناعةِ والتجارةِ والاختراعِ، وفي مجالاتِ التَّقنيةِ والاتصالاتِ وعلومِ الذَّرَّة والفضاءِ وغيرِ ذلك من مجالاتِ الحياةِ.
لكنَّ الكتابةَ تظلُّ إلهامًا يهبطُ إلى وعيِ الكاتبِ دونَ إرادتِه، فتُفجِّرُ قريحتَهُ ينابيعَ تَفيضُ بالمشاعرِ الإنسانيّةِ التي تتجاوزُ مُحيطَ واقعِهِ المَعيشِ إلى عالمِهِ الفسيحِ، وتقعُ بصيرتُهُ على ما يعُجُّ في هذا العالمِ والكونِ منْ تناقضاتٍ وصراعاتٍ ومآسٍ وآلامٍ وبؤسٍ وشقاءٍ وزيفٍ، فيتوثَّبُ يراعُهُ لتصويرِ تلكَ المظاهرِ بكلِّ أبعادِها وآثارِها، مُسلِّطًا الضَّوءَ علَيها، مُحذِّرًا منَ المصيرِ السَّوداويِّ الّذي يَتربَّصُ بالبشريَّةِ، مُنذِرًا بالعواقبِ الوخيمةِ التي تَحصُدُ أرواحَ الفقراءِ والمستَضعَفِينَ في الأرضِ.
ولكنَّ الكلماتِ ليستْ على مستوىً واحدٍ منَ المسؤوليَّةِ والإحساسِ بالواقعِ، إذْ تتَبعثرُ الكلماتُ، وتتمزَّقُ إِرْبًا إِرْبًا، وتَتِيهُ في غياهِبِ الحياةِ، حينمَا ينْحدِرُ فكرُ الأديبِ إلى سِلعةٍ رخيصةٍ يُتاجرُ بها تُجَّارُ السُّوقِ حَسْبَ مُقتَضياتِ السِّياسةِ والمصالحِ والأهواءِ!
أمّا الكلمةُ الصّادقةُ التي تتَفجَّرُ بركانًا وتُزلزِلُ الأرضَ تحتَ أقدامِ الطُّغاةِ بكلِّ أصنافِهم وأشكالِهم، وتُمِيطُ اللِّثامَ عنْ جهلِ المتسلِّطينَ على أفكارِ النَّاسِ ورؤاهُم، فليسَ لها مَحلٌّ منَ الإعرابِ إلا نَفْيًا أو تَشْريدًا أو اعتِقالًا أواغتِيالًا. كمَا عبَّر عنْ ذلكَ شاعرُ المرأةِ والتَّمرُّدِ نزار قبَّاني -طيَّب اللهُ ثراهُ- بقولِه:
وهلْ من أمَّةٍ في الأرضِ إلا نحنُ نَغتالُ القصيدَة؟!
إلى مَتى ستَظلُّ الكلِمةُ مُصادرةً ومُطاردةً كالبلابلِ، وليسَ لهَا منْ فضاءٍ تحلِّقُ فيهِ سِوى فضاءِ العالمِ المتَحضِّرِ الذي سبَقَنا إلى الفضاءِ بمئاتِ الأحْوالِ، وما زلْنا ندوْرُ حولَ أنفُسِنا ونَنبُشُ قبورَ الموتَى لعلَّنا نعثُرُ على وجودِنا المقهُورِ، وكلُّنا سُجَناءُ بنوافِذَ ودونَ نوافذَ!
احسنت النشر
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.