خاطرة "فطر ينمو في مستنقع الدماء".. خواطر وجدانية

لا تدخل إلى قارورتي فملأتها من هموم صدري ولا أدري متى ستنفجر، أعيشُ في واقعٍ مميت لا طعامًا أراه كما أُريد، ولا طفلي يعيشُ في رغدٍ كالعصافير، ولا زوجتي تَحسبُ نفسها أنثى كزهرة الربيع، أستيقظُ على دخان الطهو الذي أصبح مثل الغمام في المنزل في أيام كانون.

أراهن نفسي وأنا على وسادتي ماذا في ذاك الإناء من طعام، لا سيما أنني لم أستطع أن أجلب شيئًا معي في الأمس حين عُدت في المساء؛ لأن المال الوفير الذي في جيبي جعلني محتارًا أرتطم كالقط الجائع يرتمي أمام الجدران، وبعد الرِّهان وطول التفكير أستيقظ لأرى أطفالي يحتسون البِهارات ممزوجة بمياهٍ كلسية، وعلى نارٍ رحيقها السموم والشحوار، وزوجتي التي تحاول أن تتقاسم مع أطفالها بالتساوي قطعًا من الخبز البائت وبقايا لا يقبل أن يأكلها الدجاج، لكن بعد هذا الفضل والحمد لله، أخرج من منزلي وأحدثُ نفسي إلى متى هذا الحال يا مروان أهو واقعٌ على الجميع أم أنني وحدي الذي أخضع لذاك الاختبارِ من الرحمن!  

أشاهدُ الناس في السوق كلٌ ينادي والبعض يشتري من هذا وذاك وأنا مكتوف الأيدي محتار ملهوف كيف أشتري وجيبي مهترئ فارغ لا فرق بينه وبين بيتِ الجرذان.

أسعى طوال الوقت لأن أجدَ عملاً أعوض به عائلتي شيئًا من الحرمان، لكنني لا أعلم أين أذهب فالبطالة طالت الشيوخ والشبان، أحاول أن أعبر ذاك السور الشائك حول غوطتي، لكن إلى أين سيكون المسير وهل لي وطنٌ حين أغادر هذه الأوطان، فمدنها وبلداتها أجمل من العالم وهي كالزهر المتفتح أمام بعضه بين الأغصان، رغم أنها مدمرة لكن الزرع ينمو ويخرجُ من بين الركام.

القصف أنهك المنازل والشوارع والمدارس والمستوصفات، حتى الطفل حُرمَ من اللقاح ليصاحبه شلل الأطفال إن لم يدركه أمرٌ آخر لا يعلمه إلا الله، التمس الأرض وأجمع قشاش الأرض لأستطيع إضرام النار للطهي، لكن ماذا سأضع في ذاك الإناء وماذا سأقول لأطفالي الجياع؟!

أعمل في السوق طوال النهار عتالاً وأنقل الخضار من مكان لآخر بأرخص الأثمان، واعتدتُ جمع بقايا الخضرة المرمية على طرف الطريق التي لا تصح للبيع ولا للشراء حتى ولو كان قسمًا منها متعفنًا، وغيرها قد وقع تحت إطار السيارة جعلها كورق الجدران.

الشمس أصبحت وسط السماء، والوقت يداهمني وأنا لم أستطع بعد كل هذا التعب جمعَ إلا ثمن بعض من الرغائف، يمكنني أن أقول أصبح عشاء اليوم مؤمنًا، لكن لم ينتهِ العناء!

أعود وعلى عربةٍ أمتلكها لنقل المياه الصالحة للشرب وهو العمل الثاني وليس بجميلٍ، بل هو أصعب وشاق..

بعض من البيدونات أنقلها مئات الأمتار لتعود عليّ ببعض المال لأجمع ما بقي من ثمن العشاء، أغدو من مكان لآخر ومن طابقٍ وزقاقٍ وأرفع أثقالاً تحطيم الصخر أسهل من حملها لأجمع المال.

الشمس بدأت بالغياب والليل بات قريبًا، وعليَّ أن أعود وأحمل بين يدي قشًا للطهو وبعضًا من مخلفات الطعام لتستمر الحياة في منزلي وكي لا أفقد عائلتي بسبب الجوع والموت دون مردود.

أحضنُ أطفالي من على الباب وزوجتي تنتظر أمام الموقدة لِتُسعرَ النار لتحضير العشاء، وبعد أن أتمدد على فراشي يعود علي السؤال لماذا يا أبتي لم تجلب لنا معك بعضًا من الحلوى فوالله لقد رأيناها في الدكان، وقالت لنا أمي عندما يعود والدكم في المساء سأقول له ما تطلبون.

قصفٌ في داخلي يجعلني من قلبي أشلاءً ممزقة ولا أجدُ جوابًا لهذا السؤال إلا غدًا سأجلب لكم يا أبنائي اليوم نسيت بل إنني متعبٌ وطال بي الحال.

يستمر الحصار هكذا والحياة لا تغيرُ من وجهها إلا الجحيم أكثر فأكثر يومًا بعد يوم وساعة تلو الأخرى، لا حال يكاد يحتمل والمصاب أصبح أكبر، ولو أن الطعام موجود لكن المال أحقر، هاجر حجرتي وجعلني حيًّا أموت وأتقهقر وذراعي التي تستطيع لوي الحديد لا تستطيع صنع الأفضل..

مكسور الجناح ولا عظمٌ يرممُ ولا موتٌ يريح قلبي وعن عائلتي أترجل، اخترت العيش في وطني لكنه مجروح وأنا منه أكثر، تنعدم في الحياة الموجودة ولكن البشر صارت به أخطر، لا من هناك ينظر لحالي ولا مجتمعٌ يتأثر، "إخوة الدم به تقاتلوا ما بقي من العيب ما أكثر"، الخال ميتٌ وهم من يُسعر اللهيب أكثر، رفعوا "السلاح" لبعضهم ونسوا من هو صاحب هذا المنكر.

قتل روح الثورة ويتموا شعبها وجعلوا فيها المعتقل والثكلى، ترجل من طالته قافلة الشهداء قصفًا وغيرهم من الغدر سيرحل، وهي الغابة الفقيرةُ وأهلها جياعُ والموت فيها لا يتأخر، مدوا يدهم للعالم رد عليهم بصفعةٍ وتبسم، إلى من نشكو حالنا لغير الرب الذي يعبد، ألم يكونوا في الأمس يدًا واحدة وأتى من قال لهم وحدها تصفق وترجل..

ماذا حل بكم أضمرتم نار الحرب بنا وتعيشون اليوم ملوكًا على حطامنا بل أكثر، ترقدون على موائد يحرمُ منها الأصغر والأكبر وأنت سادة وأمراء ونحن عبيد كالسلع في السوق نباع ونُشترى..

ويحكم ألا تنظرون ما هو الحال أم أنكم تعتقدون سيبقى الحال ونبقى، كلنا راحلون ولكن للكرامةِ مكانٌ لا يمحى، تذكروا أن التاريخ يسجل وأن الجحيم لن يبقى بداخلنا فقط، فمن جعلكم أسيادًا على تلك العروش لغاياته سيعيدكم عبيدًا بل أكثر.

صحفي سوري

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
مايو 29, 2023, 11:19 ص - محمد عبد القادر نوفل
مايو 29, 2023, 10:53 ص - عبدالمجيد ايت اباعمر
مايو 29, 2023, 9:50 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 29, 2023, 9:20 ص - ايمان عمر المصري
مايو 29, 2023, 8:26 ص - أيسل حسن قيطة
مايو 29, 2023, 8:01 ص - أيسل حسن قيطة
مايو 28, 2023, 7:53 م - وليد فتح الله صادق احمد
مايو 28, 2023, 2:19 م - نيفين عوض الله دميان
مايو 28, 2023, 12:25 م - اروى عماد شحادة
مايو 28, 2023, 8:06 ص - محمد عبدالكريم قاسم مصلح
مايو 27, 2023, 8:47 م - سيرين حسين سعيد
مايو 26, 2023, 7:22 م - عصام أحمد عبدالله عياد
مايو 26, 2023, 11:24 ص - أميرة محمد المحيميد
مايو 26, 2023, 10:39 ص - يارا فائز يونس
مايو 25, 2023, 12:55 م - مني حسن عبد الرسول
مايو 25, 2023, 9:26 ص - رشا يوسف علي
مايو 25, 2023, 7:41 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 25, 2023, 7:13 ص - محمديزن الياسين
مايو 24, 2023, 8:11 م - اسماعيل على لطفي محمد
مايو 24, 2023, 3:02 م - محمد أمين العجيلي
مايو 24, 2023, 2:46 م - نيفين عوض الله دميان
مايو 24, 2023, 11:13 ص - اسماعيل الخضر
مايو 24, 2023, 10:25 ص - نيفين عوض الله دميان
مايو 24, 2023, 9:47 ص - عائشة صلاح الدين
مايو 23, 2023, 12:27 م - اسماعيل الخضر
مايو 23, 2023, 11:54 ص - محمد العيادي
مايو 23, 2023, 9:17 ص - مدبولي ماهر مدبولي
مايو 23, 2023, 7:57 ص - لطيفة محمد خالد
مايو 22, 2023, 8:46 م - نيفين عوض الله دميان
مايو 22, 2023, 8:39 ص - عبدالشافى هلال
مايو 21, 2023, 11:53 ص - محمد بخات
مايو 21, 2023, 11:41 ص - مدبولي ماهر مدبولي
مايو 21, 2023, 9:30 ص - أميرة محمد برغوث
مايو 21, 2023, 8:29 ص - مني حسن عبد الرسول
مايو 21, 2023, 7:57 ص - أميرة محمد برغوث
مايو 21, 2023, 7:50 ص - محمد بخات
مايو 20, 2023, 7:15 م - محمد بخات
مايو 20, 2023, 7:07 م - عايدة عمار فرحات
مايو 20, 2023, 2:33 م - ياسر عبدالحميد محمود سلطان
مايو 20, 2023, 9:36 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 20, 2023, 8:27 ص - لطيفة محمد خالد
مايو 19, 2023, 9:11 م - محمد الحقاوي
مايو 19, 2023, 8:20 م - شيرين زين العابدين
مايو 19, 2023, 7:42 م - عبدالمجيد ايت اباعمر
مايو 18, 2023, 10:31 ص - اسيل ممدوح لمع
مايو 17, 2023, 9:29 ص - أميرة محمد برغوث
مايو 17, 2023, 9:20 ص - اسماعيل على لطفي محمد
مايو 16, 2023, 5:02 م - لطيفة محمد خالد
مايو 15, 2023, 8:39 م - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 15, 2023, 5:34 م - زبيدة محمد علي شعب
مايو 15, 2023, 3:14 م - عبد الرحمن الكرد
مايو 15, 2023, 3:03 م - مني حسن عبد الرسول
مايو 15, 2023, 12:40 م - مدبولي ماهر مدبولي
نبذة عن الكاتب

صحفي سوري