أصبحنا دون أن ندري عبيدًا لغول أساسي يبتلع كل ما ننتجه، هذا الغول هو السعي وراء الترفيه واللحاق بحلم الرفاهية وكل ما يرتبط بهما من أدوات ووسائل.
وبدلًا من أن نحث أنفسنا على الإنتاج الفعلي الحقيقي الذي يدفع عجلة الاقتصاد ويحرِّكها سعيًا لتحسين الحياة البشرية وتقدُّمها، أصبح الناتج الإجمالي للأعمال في غالبيته يصب في جيوب ملوك الترفيه، وملوك الترفيه تعني أصحاب الفعاليات السياحية والمطاعم والملاهي والنوادي والمشارب ومتعهدي الحفلات الموسيقية والغنائية... إلخ.
توجد جهات أخرى وجودها ضروري لضمان استمرار صناعة الترفيه، وتتمثل في شركات التجميل والأزياء وشبكات الاتصالات والهواتف الذكية المزودة بكاميرات متفوقة.
الترفيه ليس أمرًا سيئًا بحد ذاته، بل هو مطلوب بين حين وآخر؛ لتجديد النشاط، ولكنه إذا أصبح هدفًا مستقبليًّا يتجه إليه كل ناتج العمل يصبح مشكلة كبيرة.
إن الوقوع في هذا الفخ أتى بعد مراحل كثيرة من الترويض المستمر والتصعيد للحاجات الثانوية وترقيتها لتصبح حاجات أساسية.
وكل هذا بمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي التي أقنعت كل إنسان أنه يستطيع أن يكون نجمًا اجتماعيًّا يستعرض إمكانياته وحالاته ليلًا ونهارًا.
لدينا مثال ممتاز عن هذا في إعلان تليفزيوني لمزيل التعرق، حيث تسرد فتاة الإعلان وقائع يومها من ذهاب للتمرين، ثم الانخراط في صف اليوجا ونشاطات أخرى كثيرة تختار لكل منها ما يناسبها من ملابس، وتنتهي بلقاء أصدقاء الدراسة القدامى.
والجامع لكل هذا هو التصوير السيلفي لنفسها (selfie) في جميع الحالات ثم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
أما الهدف المبتغى والخفي فيكمن في عبارة تقولها: «في آخر ستوري سأمثل دوري» وهذا يعني أن الحياة أصبحت استعراضًا من أجل الستوري والإصرار على عملية التمثيل المستمرة، وهذا طبعًا سيورط أي شخص بالحصول على صورة لائقة يمثل فيها دوره بإتقان.
وهذا يقتضي بطبيعة الحال مط الرقبة أو الإقدام إلى ما فوق قدرة اللحاف الشخصي على التغطية؛ لذلك يكون اللهاث مستمرًّا ومتتابعًا للحصول على صورة براقة من أحد الجوانب، في حين يغرق الجانب الآخر في ظلام دامس.
فبعد عشاء دسم في أحد المطاعم الجيدة بكراسيه الجميلة وديكوراته المتقنة والطبيعة الخلابة المحيطة به والموسيقى المميزة تصدح في أرجائه سيتعين على هذا الشخص أن يعود إلى بيته المتواضع الذي يحتاج إلى ترميم بنيته التحتية وسيعود إلى كنباته المكسورة ورائحة بقايا الطبخ من بيته ومن البيوت المجاورة... إلخ. ولو أنه ادخر ما دفعه في ذلك المطعم في يوم واحد لكان بإمكانه إصلاح أحد الأشياء التالفة أو المهشمة في منزله.
الحقيقة أنه في لهاثه للحصول على رفاهية زائفة يهرب من واقعه، ويهرب من المشكلة أو يبعدها عن الصورة، في حين أن المطلوب منه أن يعالج المشكلة.
والحل ليس سحريًّا وليس مستحيلًا. الحل هو تحسين نوعية الحياة. وتحسين نوعية الحياة يأتي تراكميًّا وليس دفعة واحدة، وينعكس إيجابيًّا على كل شيء: الصحة والتعليم وارتفاع متوسط العمر... إلخ.
وبدلًا من تصوير كرسي المقهى الجميل وشراء وقت الجلوس عليه «ما تدفعه في المقهى هو في الحقيقة ثمن الوقت، والوقت غير ملموس» ولو أن المدفوع هنا ادُّخِر لمرتين سيمكنك شراء الكرسي نفسه، وسيكون له مكان في البيت، وسيلحق به فيما بعد طاولة جميلة وسرير مريح وكنبة واسعة ونباتات منزلية ولوحات وأطباق.
لنتذكر فقط في هذا الموضع أن العملية تراكمية والمهم هو البدء بالخطوة الأولى.
وعندما تكون بيئة البيت مريحة وملائمة سينعكس هذا حتمًا على الصحة النفسية والجسدية ويساعد في شعور الأطفال بالكرامة والعناية في ظل عالم مفتوح يريهم يوميًّا كيف يعيش أقرانهم في أماكن أخرى في العالم.
من جانب آخر سيكون المال المنفق في جيب فئة أخرى عدا تجار الترفيه، سيكون في جيب العامل والحرفي والصناعي، وحينها ستدور العجلة على نحو صحيح.
وقد تنبثق مشكلة أخرى وهي أن العاملين في الترفيه من عمال المطاعم والملاهي وصالونات التجميل سيفقدون جزءًا أو معظم أعمالهم، وهذا صحيح.
لكن هؤلاء أيضًا ومع عودة الأمور لمسارها الصحيح يمكنهم الحصول على فرص عمل أخرى وأكثر دوامًا وقابلة للتطور والترقي خلافًا لوظائفهم السابقة؛ وذلك لأن العمل في الترفيه لا يمنح المرء حرفةً أو تطويرًا بل هو عمل روتيني خالٍ من الإبداع، وما يعملونه يصنَّف ضمن الأعمال الهامشية التي يمكن أن يزاولها الإنسان مرحليًّا ولكنها ليست كافية لمسيرة حياة.
فعمال المطاعم السريعة مثلًا ليسوا في الأصل طباخين، إنما هم آلات تؤدي دورها، فالعامل الذي يضع قطعة الخس في البرجر يؤدي فقط هذه المهمة طيلة يومه.
في حين يقوم الطباخ الحقيقي بإنتاج الطعام من الألف إلى الياء. ولا يمكن لأحد أن يعتمد على هذا العمل في وضع قطعة الخس كونه مهنة؛ لأنها لا تعد بتقدم أو تطور شخصي.
الترفيه مطلوب بقدر، بحيث لا يصبح هدفًا بحد ذاته، والأموال نفسها المنفقة لتمويل مشروعات الترفيه يمكن أن تكون أكثر مردودًا لو وُظِّفت في مشروعات تنموية شخصية ومجتمعية في بلاد أنهكتها الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية ودمرت بُناها التحتية وهشَّمت كل ما اعترض طريقها.
الترفيه الآن هو تعمية العين عما حدث وما يحدث فعلًا. هو هروب غير منطقي وأحيانًا طفولي، وكأننا إن اختبأنا تحت السرير أو حجبنا الرؤية أو أقنعنا أنفسنا أننا لا نرى فسيهرب ما يخيفنا من الشباك.
الحل يبدأ من الداخل، من داخل كل شخص، بتنظيم العمل والبحث عن فرص جيدة وحقيقية والحفاظ على الموارد الشخصية والعامة من الهدر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.