خاطرة "عن الفجوة الوجدانية والمسافة بين التجربة والكلمات".. خواطر وجدانية

في واحدة من محادثاتنا العشوائية، قالت لي على حين غرة: أتعرفين؟ أشعر أن أحد عيوبه هي خلفيته العائلية المتفاهمة والمترابطة للغاية. لو كانت واحدة أخرى غيرها، كنتُ سأتعجب من تلك الكلمات كثيرًا، فكيف بصفة يعدها غالبية الناس علمًا أخضر في العلاقات، تعدها هي علمًا أحمر يستحق التوقف عنده؟

لكن وجدتني أسترجع حياة تلك الصديقة وخلفيتها العائلية الممزقة، والحروب المريرة التي خاضتها للتخلص من السجون الجسدية والفكرية التي فرضتها عليها عائلتها. وما زالت تناضل ضد سجونها النفسية، وهي المعركة التي تعتقد أنها ستستمر العمر كله، فالرواسب النفسية - خاصةً - تبقى وإن زالت ظاهريًّا أو اتخذت أنماطًا مختلفة.

لم تمر تلك الكلمات على عقلي مرور الكرام. لوهلة شعرت أنني أريد أن أتوصل إلى سبب عزوف صديقتي، وكل من اكتوى بنار الألم، عن التعبير عن مشاعرهم أمام أولئك الذين لا يتقاطعون معهم في تجارب الشعور. لماذا تتولد فجوة وجدانية بين من حاصرتهم الحياة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبين أولئك الذين بسطت لهم الحياة ذراعيها ولم تبخل عليهم بتربية حانية كلما احتاجوا إليها؟

الآن التجربة الوجدانية القاسية شديدة التفرد، ولن يفهمها إلا من ذاق مرَّ كأسها؟ فمن ذاق عرف، ولن يبخل حينها على رفيقه من الاغتراف من معين آلامه، ليس مازوخية، وإنما تفهمًّا، فوحدة الألم خلقت بينهما رابطًا يصعب كسره.

قد يقول قائل: ولكننا كائنات بشرية وهبنا الله ميزة التعاطف، فنهتم بآلام غيرنا، ونرحم ضعيفنا، ونضع أنفسنا مكان من ابتُلي منا.

ولكن هل التعاطف باب مفتوح على مصراعيه يعبر منه الجميع، أم أنه باب يسمح للبعض بالعبور في حين يمنع البعض الآخر؟ هل للتجربة الشعورية مفهوم عالمي أو طريقة استقبال وإرسال واحدة تجمع بين الأجناس، ليكون التعاطف عموميًا؟

هل التجربة الوجدانية الإنسانية موحدة في العمق؟ هل ما نشعر به ويجرحنا في الصميم، سيؤثر بالعمق نفسه على آخر مرَّ بتجربة مشابهة؟ لكنه ليس نحن، وتركيبته النفسية ليست تركيبتنا، وجيناته ليست جيناتنا؟ فالتجارب أو الظروف المشابهة لا تنتج نفس الأثر على زائريها، فما بالنا بمن لم يقربها أو يتلظى بسعيرها؟

فحتى أولئك الذين يهتمون بنا، لكن ليس لديهم أي صلة بالجحيم الذي عبرناه، وبقلوبنا التي ناحت حتى انقطعت نياطها، لن يفهموا، ببساطة لأنهم لم يعايشوا. صاغها الدكتور أحمد خالد توفيق بكلمات من تقلَّب في عذاب العزلة زمنًا حتى اهتدى أخيرًا إلى قبول الواقع فقال:

"لن يفهموك .. فأنت تتحدث عن أمر قطعت فيه آلاف الأميال تفكيرًا ولم يمشوا فيه خطوة واحدة. ولن يشعروا بك، فأنت تشرح ما جال في قلبك كل ليلة ملايين المرات، ولم يطرق قلبهم ليلة، ليس ذنبهم بل هي المسافة الهائلة بين التجربة والكلمات."

قد ترجع صعوبة الإفضاء والمشاركة أيضًا إلى سيادة الثقافة المهووسة بإخراس المشاعر، والتعامل معها كأنها عورة يجب أن تُدفن أو في أقل تقدير لا تغادر مخبأها في الصدور، فتظل حبيسة أبد الدهر، كمجرم أفلت من الإعدام لكنه لم يسلم من المؤبد.

تجعل حُمى الرعب تلك كثيرين لا يرتاحون للفضفضة بالضيق العاطفي، ليس لأنهم لا يهتمون، ولكن لأنهم لا يعرفون كيف يتصرفون مع مشاعرهم هم. فهم تعلموا إسكاتها بل وإنكارها منذ نعومة أظفارهم. تصيبهم قشعريرة الربكة أمام شخص أتى وفتح قلبه وأطلعهم على بحر مشاعره بأمواجه المضطربة التي لا تهدأ. يقفون عاجزين أمام الإفضاء بمكنونات الصدور وما تخفي الأنفس.

أو الأدهى أن يرفضوا ألمك بكل تصلب خوفًا من مواجهة آلامهم التي تفننوا في إقصائها عن واقعهم الحاضر، وأنتَ بتعبيرك الأصيل عن ألمك تذكرهم وتجعل الجروح القديمة تنبض بالصديد مرة أخرى وتجبرهم على إعادة استكشافها من جديد، بما تشتمله تلك العملية المجهدة من ألم وشجاعة لا يمتلكها كثير.

لتلك الأسباب وغيرها ذكرت صديقتي تلك المقولة العابرة التي قد يستغربها البعض أو يشينها عليها، لكن جذورها النفسية أعمق من أن نتجاهلها.

فكل ناجٍ من تجربة حولت نار روحه إلى رماد يستحق... يستحق أن يحترم تجربته الشعورية التي كوَّنت الشخص الذي هو عليه الآن، فعن طريق الألم نجد معنى الحياة، ونصل إلى نسخة أكثر أصالة من أنفسنا.

يستحق الناجي - قبل كل شيء - أن يهب لنفسه الحرية الشعورية، فيتحرر من أولئك الذين يمطرونه بسيل من أحكام مجحفة بمجرد أن يقرر البوح، بل في بعض الأحيان قبل حتى إن يفتح فمه. يستحق أن يُرى بأعين متقبلة، مُقِرَّة لما مرَّ به، ليست مُنكرة ولا متعالية ولا تفرض رؤيتها بديلًا عن رؤيته، لأنه - ويا للمفاجأة - يمتلك عينين لديهما مستقبلات حسية تؤهلانه لرؤية الطريق بنفسه جيدًا، وتمكنه من دفة قيادة حياته وترتيب أولوياته.

لديه كل الحق في بناء أسوار شاهقة حول معاناته الشعورية التي زلزلت كيانه وقلبت حياته رأسًا على عقب. فلا ينفذ إليها إلا من يستحق أن يراه على حقيقته، ويكون جديرًا بالاطلاع عليها، فليس الجميع يستحق حقيقتنا.

ولا يعني هذا أننا سنتوقف عن حب من يهتمون بنا لكنهم لا يفهموننا، لكنه فقه أولويات النجاة وإعطاء كل ذي حق حقه. فرفقًا بأنفس استغاثت حتى بُح صوتها من فرط صياحها، ولم تجد منقذًا غير الله يخرجهم من ظلمات اليأس إلى نور الأمل. ووقتها يثمنون تجربتهم التي خاضتها قبلهم هيلين كيلر حين قالت: "العالم كله قد يعجز عن فهم الشخص الذي عانى من الظلام، ولكن الشخص الذي مرّ بالظلام يمكنه أن يرى النور."

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

رائعة الخاطرة صديقتي مروة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة