خاطرة "على هامش كاتب".. خواطر أدبية

قبل أن أستهلَّ موضوعات هذه السلسلة فلأبدأنها بتفسيرٍ سريعٍ موجزٍ لأسباب وَلَعي بما تسمونه الكتابة.

لم أكن في صغري أهتم بقراءة الكتب مطلقًا، فما بالك بصياغة موضوعات مختلفة متنوعة يكسوها شيء من التحذلق الأدبي، والكلمات التي يُخيل لمَن يقرأها أن كاتبها أديبٌ بارعٌ قد روَّض قلمه.

ولأن له فكرة، فهو يجعل الكلمات يتواردن إلى ذهنه حيث شاء، وكأنها تَرِد جدولَ ماءٍ عذبٍ على شدة عطش، والحقيقة لا تقترب من هذا التصور قيد أنملة، فهي ما بين خاطرةٍ أتت في غير ميعاد.

وما بين فكرة تأرجحت بين سموِّ المعنى وتخاذل الألفاظ، فهو -الكاتب- يحتال للفظٍ أنيقٍ من هناٍ وآخر دقيق من هناك، فلا ينال ما يحتال له.

فيظهر موضوعه على غير ما تنبأ به صاحبنا ذاك الذي كان مفتتحُ تعرُّفه على هذا الكويتب، ولذا فمن الحق أن يعترف مَن هم على شاكلة هذا الكويتب بأنهم ليسوا من أرباب الأقلام، ولا من فرسان الفكر، لما هم فيه من تذبذب بين نفحات الإلهام ومسايرة الكلام وتدفق المعاني والأفكار.

وبين ممانعة المعنى وهروب الألفاظ الأنسب من رغبة الكاتب في انتقائها وحسن اختيارها، وهذا مما آسف عليه شديد الأسف، فإني من أصحاب التذبذب، فالكلمات خوَّانة، والمعاني غرَّارة.

قد يعتريك نسيم إلهامٍ في ساعةٍ، وتعصف بك رياح العجز في تلك الساعة ذاتها، وليس النسيم والعاصفة غير لحظة تأخذ زمام خاطرك، فلا تملك من أمر ما تكتب شيئًا.

فتارةً يجيء ساميًا لدرجة يحسب فيها الكاتب أن ما خطَّت يداه ليس له إنما هو لِأحد عظماء هذا الفن وأحد أربابه، فليس له في حسن الصياغة وجودة السبك وتخيُّر الألفاظ وما شاكله رأي أو اختيار، وإني لعلى ما وصفت.
والآن بعد هذا التقديم الطويل المستطرد، أبدأ أول عناوين هذه السلسلة فأقول:

 كيف يعرف الإنسان قيمته عند الآخرين؟

يظن الناس فيما بينهم أن قوة علاقتهم مبنية على مدى تعلقهم ببعضهم، كأن التعلق وإظهار الاهتمام هما أساس من أسس العلاقات واستمرارها، ولكن هيهات!

فما يُظَن ليس كما يُتَيقن، فالحياة ومجرياتها تكشفان كم أن الناس منعزلون رغم اجتماعهم وكثرة علاقاتهم وروابطهم.

فهم ينتظرون الاهتمام من الآخرين، وعلى الجانب الآخر يتجاهلون الآخرين، ويُكثرون إساءة الظن بهم، وذلك رغم أن تصور الناس بشأن التعلق مبني على الشعور المتبادل.

وهذا لا يتحقق في معظم العلاقات، وإن تحقق فإنه لا يستمر مهما طالت العلاقة أو قصرت، ولذلك فإن الإدراك الصحيح والسليم هو إدراك مدى عزلة الآخرين والهُوة الكبيرة بين تصورات الناس وحقيقة طبعهم.

فهم وإن ظنوا في أنفسهم تعلقهم بالآخرين يبقون بحاجة إلى ذلك القدر من العزلة، وإن تَفَهُّم هذه الملاحظة يُغيِّر تفكير المرء ويُوجهه إلى ضبط علاقاته ومقدار تعلقه بالآخرين، فلا يُصيبه ما يُصيب كثيرين من خيبات عند مصادمة حالة العزلة التي لا بد لأي إنسان منها.

وكما قالوا: «زر غِبًّا تزدد حبًّا»، فلا تدوم علاقة وهي قائمة على التعلق والتلاصق؛ لأن الإنسان في مجمل تفكيره يحتاج إلى السكينة والراحة والانفراد ليُنظم أموره، أيًّا كانت، نفسية، اجتماعية، مستقبلية، «حبشتكانية» حتى وإن كانت هروبًا من مغبات الحياة لا غير.

وليس من حقك أن تسلب إنسانًا حرية الاستقرار متعللًا بأنك تسعد بالوجود معه وبمرافقته، إذ إنه قد يصل إلى حالة تجعله يُنهي العلاقة بصمتٍ ومن دون مبالاة، ولك أن تتخيل! والسلام.

ماذا يعني أن تُحادث نفسك؟

في سِنِي عمري الأُولى كنت لا أُلقي بالًا لما يجري من حولي، ولا أهتم بالذي يحدث في محيطي، بل كنت أسير مع التيار بغير اختيار.

فإن لعب الأطفال لعبتُ، ولا آبه أفزتُ أم خسرت، وإن اجتمعت العائلة في البيت، لزمتُه رغم قلة ما يُخِرج فمي من كلمات، ولم أكن أعي أن ما أفعله يُعد غريبًا عن سلوك أقراني من الأطفال.

ولم ألحظ أني أتفوَّه بكلماتٍ مع أني جالسٌ وحدي، إذ إن هذه الكلمات أُحادث بها نفسي، فكنت أشكو أحزاني، وأذكر أفراحي، وأسرد مواقفي لشخص يُجيد الاستماع ولا يتكلم، بل ينتظر حتى أنتهي مما عندي ثم يُحلِّله.

وبعدها يطرح استنتاجه من موضوعي الذي ناقشته معه، فيُعلِّل لما يراه صوابًا، ويُعاتب على ما يراه خطأً، ويُبرِّر أو يجادل فيما يراه  بين الصواب والخطأ، وكل ذلك على لساني أنا، فأنا المتحدث والمحادَث، أنا المتكلم والمنصت.

فلماذا أتكلم مع نفسي؟ هذا السؤال دائمًا ما أطرحه على نفسي وفي كل مرة تكون الإجابة: «لأنه ما من أحدٍ تستطيع أن تبوح له بما تبوح به إليَّ».

فأرد عليها قائلًا: «حسنًا، فيما تقولين وجهٌ من أوجه الصحة، ولكن لماذا حديثي إليكِ ليس كحديث الناس؟

فهم يُكلمون أنفسهم في خواطرهم، لا كما نتحدث أنا وأنت، فنحن نتحدث وكأننا شخصان منفصلان لا شخصًا واحدًا، فما بالي؟ أصرتُ إلى الجنون ولا زلتُ أظن نفسي عاقلًا؟ بمَ تردين؟».

أجابت بعد تنحنح: «أتُنكِر أنك لم تجد سواي عندما تركك مَن ظننت أنهم أقرب مني إليك وحسبت أنهم يستمعون لشكواك إذ تبثُّ همومك وتُزيح الهمَّ الذي يجثوا على صدرك؟ كلا والله!

ألم تُدرك بعدُ أني أنا مَن رافقتك طيلة حياتك فلم أملَّ سماعك ولا الرد عليك ولا حتى مجالستك ساعات طالت أم قصرت، أتجيء اليوم فتُنكر فضلي عليك؟!

فوالله الذي لا إله غيره لو لم تُفضِ إليَّ بما في صدرك لما طاب لك عيشٌ، ولا ارتاح لك بالٌ، وللبثتَ في غمٍّ طويلٍ وهمٍّ لا انقطاع له، فكم من أيامٍ مررت بها فما وجدت من أحد يدرك قدر ما أنت فيه غيري!».

كانت نفسي تُسهب في كلامٍ من هذا النوع وأنا أُنصت مشدوهًا لا أكاد أتبين، ألساني الذي يلهج بهذا الكلام أم أن الجن قد مسَّني بشيء مما يتلبس به بني آدم؟!

فما كان مني إلا أن اعترفت وأقررت، ولكن قلت في نفسي وهي لا تزال تُحادثني: «أليس انشغالي بمناقشة كل صغيرة وكبيرة مع نفسي هو في الأصل سبب ما أنا فيه من التيه وضياع الوقت وفوات الفرص؟».
لكن لم أحصل على الإجابة التي قصدتها، فما زلتُ في حيرة، فلا أنا كففتُ عن البوح، ولا نفسي كفَّت عن مواساتي وملء رأسي بتحليلاتٍ تتناول توافه أمري!

أديبٌ ينضج، أفكارٌ تلح، ونفسٌ ترغب.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

أغسطس 23, 2023, 7:15 م

جميل ما كتبته
علينا أن نشكر هذه النفس على تحملنا
دام نبض القلم

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
نوفمبر 30, 2023, 11:37 ص - سمسم مختار ليشع سعد
نوفمبر 29, 2023, 2:41 م - يغمور امازيغ
نوفمبر 29, 2023, 8:24 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 29, 2023, 7:31 ص - سادين عمار يوسف
نوفمبر 28, 2023, 7:06 ص - أسماء مداني
نوفمبر 27, 2023, 2:42 م - براءة عمر
نوفمبر 27, 2023, 1:17 م - عزوز فوزية
نوفمبر 27, 2023, 11:52 ص - سيرين غازي بدير
نوفمبر 26, 2023, 2:58 م - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 26, 2023, 2:24 م - إبراهيم محمد عبد الجليل
نوفمبر 26, 2023, 10:15 ص - ايه احمد عبدالله
نوفمبر 26, 2023, 9:51 ص - ليلى أحمد حسن مقبول
نوفمبر 26, 2023, 9:27 ص - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 26, 2023, 8:03 ص - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 26, 2023, 7:35 ص - رولا حسن ابو رميشان
نوفمبر 23, 2023, 12:46 م - رانيا بسام ابوكويك
نوفمبر 23, 2023, 10:41 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 23, 2023, 8:28 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
نوفمبر 23, 2023, 7:26 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 22, 2023, 2:20 م - محمد سمير سيد علي
نوفمبر 22, 2023, 2:00 م - عبدالخالق كلاليب
نوفمبر 21, 2023, 8:51 ص - مدبولي ماهر مدبولي
نوفمبر 19, 2023, 1:07 م - محمد بخات
نوفمبر 19, 2023, 10:03 ص - فاطمة محمد على
نوفمبر 19, 2023, 7:49 ص - شاكر علي احمد عبدالجبار
نوفمبر 18, 2023, 11:36 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 18, 2023, 8:09 ص - شيماء عبد الشافي عبد الحميد
نوفمبر 17, 2023, 7:32 م - سادين عمار يوسف
نوفمبر 17, 2023, 6:13 ص - يغمور امازيغ
نوفمبر 16, 2023, 8:30 ص - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 15, 2023, 6:01 م - كامش الهام
نوفمبر 15, 2023, 12:21 م - ساره محمود
نوفمبر 15, 2023, 9:50 ص - ميساء محمد ديب وهبة
نوفمبر 14, 2023, 4:16 م - يغمور امازيغ
نوفمبر 14, 2023, 1:22 م - شهير عادل الغاياتي
نوفمبر 14, 2023, 6:27 ص - أسماء منصور علي
نوفمبر 13, 2023, 12:03 م - سندس إبراهيم أحمد
نوفمبر 13, 2023, 11:17 ص - فاطمة حكمت حسن
نوفمبر 13, 2023, 6:43 ص - رؤى مالك القاضي
نوفمبر 12, 2023, 2:15 م - ميساء محمد ديب وهبة
نوفمبر 12, 2023, 12:25 م - عامر محمود محمد
نوفمبر 12, 2023, 5:58 ص - موبارك حورية
نوفمبر 11, 2023, 8:03 ص - نضال الغفاري فضل السيد
نوفمبر 8, 2023, 4:43 ص - شهاب الشهابي
نوفمبر 6, 2023, 4:31 م - ساره محمود
نوفمبر 6, 2023, 11:20 ص - سعيد مجيود
نوفمبر 5, 2023, 11:23 ص - عبدالرحمن خليل النمر
نوفمبر 5, 2023, 10:41 ص - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
نوفمبر 5, 2023, 7:19 ص - هاجر فايز سعيد
نوفمبر 5, 2023, 6:26 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 5, 2023, 5:49 ص - عايدة عمار فرحات
نوفمبر 4, 2023, 8:46 م - إسلام عبد الكريم السنوسي
نوفمبر 4, 2023, 6:41 م - فاطمة محمد على
نوفمبر 4, 2023, 5:59 ص - ميساء محمد ديب وهبة
نوفمبر 3, 2023, 6:55 ص - محمد بخات
نوفمبر 3, 2023, 5:13 ص - وفاء حمزه سعيد
نوفمبر 2, 2023, 11:59 ص - سمسم مختار ليشع سعد
نبذة عن الكاتب

أديبٌ ينضج، أفكارٌ تلح، ونفسٌ ترغب.