أنا أعود إليكم من جديد، مستلقيًا على فراشي، أنتظر موتتي الصغرى، فكيف لها أن تأتي وبداخلي نيران لا تنطفئ، وأفكار لا تهدأ، وخيالاتي لا تتوقف.
هل سبق لك أن تذرف الدموع قبل أن تنام وأن تستيقظ ولا يزال أثرها في وجنتيك، وأن تكمل ذرفك للدموع حتى بعد استيقاظك؟ أنت لا تعلم لماذا، ولكنك تستمر بفعل هذا الشيء.
كم أصبحت أكره أصوات الحياة، وأصوات الأطفال في الحديقة المجاورة لمنزلي، وصوت المركبات على الطريق، ألا يوجد وقت يصمت العالم، وأن تتوقف الحركة في هذا الكوكب ولو لدقيقة؟
هلَّا وضعت يدك الصغيرة على قلبي لكي تزول عنه الصحراء، لكي تهرب الذئاب منه وصدي قفارها، لكي يرحل العنكبوت الذي يتنفس في رئتي، لكي يغادرني الخدر الذي ينتاب أشياء الرفوف والأدراج فأحسب أنني منها.
لا يخلصني من الغبار إلا صباح الخادمة بأرياشها الاصطناعية ورقعتها البليلة الساحرة، هلَّا لمست بإصبعك صمت الغرفة، التي تغرقني بهوائها الفاسد وأشباحها التي تتدلى من السقف والجدران..
أعرف الآن أنك إذ تلمسين صخرة صدري يستيقظ نبضي فأخرج من وقتي الحجري إلى وقتك الرطب، وأعلم أن يدك هي الخرافة التي انتظرتها وصدقتها، ولشدة ما صدقتها أصبحت تأتي إلى نومي وتسهر عليه، لذلك لم تعُد تأخذني حفرة النوم، لم تعُد تأكلني ذئاب النوم، حين أسير متعبًا إلى سريري واهبه جسدي، حين أستسلم إلى المجهول.
أعلم أن هذا الوضع لا يعجبكم يا رفاق، أنا أيضًا لا يعجبني أمري، لا يعجبني الجلوس منعزلا خوفًا من قبح العالم وأنانيته، أن أدير ظهري للحياة وأمضي في بؤس لا نهاية له، أن أضيع سنوات عمري هباء في ظلام دون تحقيق شيء، ألا أحاول وأستسلم في صمت تام، أن أتربع وحدي في المأساة ولا أنفر منها، أن أتجاوز حديثهم عني لكني لا أتجاوز أمري ولا أتوقف عن التفكير به.
حتى وإن فكرت في الخروج يومًا وأن أذهب إلى المقهى، هل جربت يومًا أن تذهب وحدك لمقهى أو لأي مكان مزدحم، وتجلس دون أن تفعل شيئًا سوى الاستماع، فبينما تدقق في كمية التبغ المحروق، ستستمع الكثير من الثرثرة، المواساة والمجاملة، ستلمح الكذب بين السطور، وإن أمعنت، سترى مدى قابلية البشر على تصنع الود وتزييفه.
ستلاحظ علاقتهم اللامتناهية من الضجيج الفارغ، بل وستجدهم يمجدون هذا الفراغ، وليس من الغريب عليهم أن يعظموا التفاهة، ويسلطوا الأضواء على التافهين، بل ويتركون المنبر لهم، فالإنسان منذ القدم وعلى الأغلب، كانت التفاهة وسيلته المفضلة، في إمضاء يومه، لذا نجد توارث هذه الصفة جيلًا بعد جيل، لطالما فضلت الجلوس صامتًا مع نفسي لساعات طويلة، على أن أخالط أصحاب الجماجم الفارغة تلك.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.