يومٌ يخشاه الكثيرون أكثر مما يخشون الموت، كأنه القتل الرحيم، يومَ يشعر الرجل بأن صلاحيته قد انتهت، وأن عليه فقط انتظار أجله، قد قرر قانون المعاشات بأن لا استفادة منك بعد اليوم وعلى الدولة استبدالك بمن هو أصغر..
كم من رجلٍ أخفى على عائلته قرار بأنه قد وصل سن المعاش، يخشى أن ينظرون إليه كما نظر إليه قرار المعاش!
الحق أنني ما كنتُ أبالي بتلك اللحظات، وكنتُ أظنها لحظات تمثلها لنا الدراما فحسب، حتى أدركت خوف أبي من ذلك اليوم قبل 10 سنوات منه، ما زلت أخشى أن أحتفل بيوم ميلاده حتى لا أذكره بأن عامًا قد مضى وقد اقترب اليوم الذي يخاف! لَمحْت له مرارًا وتكرارًا بأنه تَعِب أكثر من اللازم والراحة ستكون مثالية له، وما وجدت منه غير التهرب من الحوار.
كلّا أنهم لا يجدونها راحة أبدًا...
الروتين اليومي، والنوم للاستيقاظ في الميعاد، ورنة المنبه في الصباح، وانتظار إجازة الأسبوع للاسترخاء، من كل شيء لسبب، لللاشيء.. لا داعي لرنة المنبه في الصباح الباكر، ولا داعي للنوم مبكرًا، حتى كوب القهوة في الصباح أصبح لا داعٍ له.
لكن شخصًا أفنى 60 عامًا من عمره نصفهم لأجل أبنائه، هو السبب الرئيسي لشعورهم بذاتهم اليوم، وهو وراء انشغالهم اليوم، ما كانوا لينشغلوا عنه! وما كانت الدنيا لتسلب منه حقه فيهم..
كما صنع لك العمل روتينًا، نستطيع أن نصنع روتينًا جديدًا، ما زال هناك العديد من الأسباب كي نفعل أشياء جديدة...
لكل من بلغ أهله من العمر أرذله، قد عاصروا معك أعوامًا كنت لا تفرق فيها بين الأيام وبعضها وما مللت، قد عاشوا معك عمرًا يحتفون بكل خطواتك، يحتفون بأول يوم لك بالمدرسة ثم بالجامعة ثم يُوصلونك بأنفسهم بأول يوم لك في العمل ثم ثم ثم... عاشوا عمرًا يشهدون تكبر أمامهم كأعظم نبتة في التاريخ، لم يخطر ببالهم للحظة بأنهم يكبرون معك، ولم يجول ببالهم أبدًا بأنك كلما تكبر كلما تبتعد...
قد صانوا الأمانات، وإن لم يستطيعوا فقد حاولوا، وإن لم يحاولوا فقد خدعتهم الدنيا ولم يدركوا، وأيًا كانت تلك الطريقة التي تعاملوا بها مع الأمانة، فدورهم قد انتهى، وبدأ دور جديد، ويحمل الأمانة أشخاص آخرين...
اليوم عليك أن تبني معهم روتينهم الجديد...
ما زال في الدنيا الكثير لتكونوا معنا، ما زالت الكثير من المحادثات لم نخوض، وما زالت التجمعات العائلية مصدر طاقتنا، وما زال دور لعبة طاولة يصفي عكر يومًا بأكمله، وما زالت الاحتفال بالإنجازات بين أحضان العائلة أفضل بكثير من الاحتفال خارجها...
وودتُ دائمًا لأخبر والدي بأني أبغض عملي وعمله لتلك الوقت الذي يمر سريعًا دون أن نبقى سويًّا، وددتُ كثيرًا أن أخبره بأن يومًا يذهب به إلى العمل وهو ليس بخير أثقل عليّ من هموم الدنيا وما فيها.
وودتُ أن أخبره بأنه لو كان بيدي لأجلسه ملكًا متوجًا لا يحمل همًا من الدنيا، وودتُ أن أخبره بأننا مدينون، ونحتاج الكثير والكثير من الوقت لسداد الديّن.
قد يكون دورًا قد انتهى لتقدم شيئًا جديدًا لمؤسسة ما، لكن مؤسسة العائلة مؤسسة خاصة لا تعترف بقانون المعاش، تعترف فقط بقانون الحب والامتنان، هي أولى بالجهد الذي أُبذل لأجل مؤسسة أخرى، تستحق المزيد من الوقت الذي كان يُقضى بعيدًا... يستحق بها الإنسان أن يسترخ بالقرب من دائرته الخاصة، ولا يحيط به سوى شيئاً من الدفا...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.