منظر اصطفاف مجموعات كبيرة من الأفراد بالقرب من نقاط بيع هاتف الآيفون يوحي لنا بأننا نشاهد منظرًا لحجاج بيت الله الحرام، أو زائري أحد المعابد البوذية، أو الحجاج المسيحيين في مدينتهم المقدسة الفاتيكان.
وهو أشبه بذلك في نواحي كثيرة، وكأنها ظاهرة دينية جديدة انبثقت من رحم الرأسمالية الرقابية، فيها نبحث عن «الخلاص المقدس» يمثل لنا «هروب من الواقع»، فالإصدار الجديد للآيفون لا يمثل بحد ذاته قيمة، لكن رمزيته المتمثلة في «رغبة التمايز».
وبوابة عبور مؤقتة تنضم لمن هم في قمة جبل الحرية من النخب، تلك النخبة التي تشكل ما يقارب 1 أو 2%، وهو طقس يتضمن الانتظار الطويل، والصبر والتعب والإعياء والعنف بما يشبه شعائر «التطهير الروحي» على حد تعبير دانتي في الكوميديا الإلهية.
الهروب المؤقت من الواقع يظهر قناعة داخلية للأفراد في استحالة تحقيق ما يتحقق لتلك النخب، ورغم ذلك تتولد رغبة في مقاومة هذه القناعة الداخلية، تعدّ نوعًا من الانتصار الهزلي، الذي يخرج الإنسان من واقع كئيب ونظام استغلالي وقمعي.
وتتمثل هذه الظاهرة في بعدين متناقضين، وفي جدلية جلية بين الذات والواقع؛ فالذات تبحث عن خلاصها والواقع لتلك الرأسمالية المتوحشة يتعزز عبر هذا التطهير، وتلك الشعائر التي تمارس سنويًّا مع اقتراب إصدار جديد.
إن المسألة أبعد من أن تكون مجرد تفضيلات شخصية، فما الذي يمنع الفرد من الانتظار لليوم التالي، أو ربما أشهر من أجل أن يقتني الإصدار الجديد الذي لن يذهب بعيدًا، ولن يغيب في بعد زمني آخر لا يمكن الوصول له، أو كظاهرة طبيعية تحدث كل مئتي عام؟
إن هذا الحدث لهو انعكاس مصغر لما يحدث على المستوى الأكبر في الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسوف أذكر فكرة مغايرة من أجل الربط بينها وبين ما ذكرته سابقًا، فالأنظمة السياسية الشمولية الدكتاتورية سابقًا كانت تقمع وتستغل وتقصي بطريقة عنيفة وبشعة وإجرامية على نحو فاضح، فتبث الرعب في قلوب الجماهير.
وتفرض عليهم الخوف المستمر الدائم من الإقدام على ما يخالف توجه تلك الأنظمة، وتسلبهم حق السخرية والكوميديا، وتحولهم إلى آلات عاملة ضمن آلة الدولة.
كل شيء يسير ضمن خطة مقدسة توجب على من اطلع عليها اتباعها مكتوبة وغير مدونة في الوقت ذاته، فتشكل الوعي الجمعي على الكشف عن هذه النوعية من الأنظمة وإدراكها، فغاب عنه عودتها الآن على نحو ماكر وخفي ومخادع.
فقد منحت الفرد تحت ظلها كل أنواع «المتعة الاستهلاكية القصوى»، وحولته إلى باحث عن «نهم اللذة» في كل شيء حوله، والتفاهة والسخرية مسموحة إلى أقصى درجة، وهذا النوع من السماحية يلبس قناع «التغيب الخفي» للوعي الجمعي عما تفعله.
لذا فهؤلاء الذين يصطفون في صفوف التطهير والخلاص الروحي عبر لذة اللحظة ومتعتها، التي تتمثل في جهاز الآيفون بعد ألم ومعاناة تتحرر لاحقًا في اقتناء ذلك الهاتف، أقرب إلى الاستهلاك الروحي من المادي، تخفي عنهم استغلال تلك الشركات الكبرى لهم ولكل بياناتهم، وتلاعبها بوعيهم عبر الإعلانات، التي تظهر لهم.
وتعدّ كل ما يقع في يديها من بيانات من أجل أن تخلق ذاتًا مأسورة وأسيرة في فضائها، ورغم أن الفرد يختار التحكم في بياناته، لكنه تحكم محدود يولد شعورًا وهميًا بالسيطرة والتحكم، فما يُجمع من بيانات مقابل ذلك هائل وضخم، إنهم يعرفون أعمق أسرارنا، ويغوصون في خلجات النفس المتعبة من عبء الحياة وقساوتها، وواقعنا الاجتماعي المتشظي، وتعقيدات تشكلات الهوية.
وتخفي كذلك الوجه المظلم من عمليات التصنيع عبر استغلال العمال وتدمير البيئة لاستخراج المعادن الثمينة، والأطفال العاملون فيما يشبه مخيمات النازحين في ظروف قاسية، فهذه التجربة توحي لنا بأننا يجب أن نتألم من أجل المتعة واللذة، وأن التنافس على الشراء والعنف والتدافع والألم هو جزء طبيعي من الوجود الإنساني.
الواقع الاجتماعي والثقافي يقبع تحت سطوة وسلطة النخب وطبقة اجتماعية معينة، تشكلها حسب ما يتناسب مع مصالحها، وعلى بشاعة هذا الواقع يحتاج الإنسان إلى «الخيال» كجزء من واقعه جانب الوهم، لكن ليس بمعنى الوهم الذي يضلل ما تراه ويتضمن كذبًا وخداعًا.
لكن الوهم كجزء من واقعنا الاجتماعي كحقيقة من وجودنا، فالتجربة الذاتية بحد ذاتها من أجل اقتناء الآيفون هي ما يهم.
وهي ذلك الجزء الخيالي الواقعي الذي يعمل على منح المشاركين في هذا الطقس الديني الرأسمالي شعور التفوق والتميز والمتعة واللذة، وما أن يُقتنى الآيفون والتقاط صورة له من أجل مشاركتها في وسائل التواصل الاجتماعي، ويصبح الخيال واقعًا ملموسًا.
وتتلاشى اللذة والمتعة ويتفكك ذلك الواقع ليواجه الإنسان وحشية النظام الرأسمالي ومسؤولية قراره، فيغرق في ديون أو في نوع من الوحشة والاغتراب، ليبحث عن الأنس في تجربة ذاتية أخرى تعيد له ذلك الشعور.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.