خاطرة "ضريبة النضج".. خواطر وجدانية

بعيدة هي تلك الصور التي ظننا أنها قريبة، وتلك الانكسارات التي ظننا أننا نجونا منها كانت دانية قطوفها منا اكتمال اللحظة.. لتنقض على قلوبنا كالسباع الجائعة!

فلا تجثو بكل ثقتك على كتف أحد قط فلعل صاحبه يحتاج تحريكه فتسقط.. أو يريد أن يسقطك فيحركه!

"قالت لي صديقة قديمة يومًا ما أنها عرفتني جيدا كما لم يعرفني أحد من قبل.. فقلت لها: "لا.. أنت لم تعرفيني إنما عرفت الجزء الذي يشبهكِ مني فقط".

وربما عرفني الجميع أكثر منكِ ذلك لأنك اقتربت مني..

فعندما نقترب تكبر الصور كثيرا حتى إن أعيننا قد تركز على جانب دونما الآخر..

فقد ترى قصرًا من قمة جبل ولكنك حين تدخله لن ترى غير الأماكن المحيطة بك، وهنا يكمن شر الاقتراب من الأشياء..

في ازدياد عتمتها وفتنتها.. فمن يقعون في دائرة الفتن أشد عمى من الذين يراقبون من بعيد.. ولا أقصد بهذا بعد المسافة بل بعد النظر وانحصاره في زاوية واحدة..

الحقيقة أن العين تبصر، نعم وبوضوح تام لكنها غير قادرة على البصيرة.

إنما البصيرة هي تلك الشقوق والندوب في القلب التي أحدثتها ضربات متكررة مع اختلاف التجارب والمفاهيم التي مر بها الإنسان خاصة إن كان متأملاً فلا تكاد تلتئم..

تلك منافذ النور إلى القلوب التي منها تنفذ البصيرة وتسطيع أن تبصر منها ما لا تراه عينك.

وعين البصيرة لا تفتح ويسطع نورها إلا بالقلم أو الألم، فمن يقرأون كثيرًا يكتسبون تجارب جاهزة بعبرها ودروسها وحكمها الغزيرة دونما الحاجة إلى التعرُّض للمواجع، فتتفتح آفاق الوعي لديهم كما تتفتح زهور الأقحوان البري.

والبعض الآخر لا يحبذون الإنصات إلى التجارب والملاحظات والدروس في الكتب وفي قصص الآخرين، فيتعرضون للألم الشديد حتى يتمكنوا من الرؤية الواضحة..

لتصبح الأشكال فقط من تتغير إنما الأنماط تتكرر وتعرفها قلوبهم وتستشعرها.

يحصل البصير على تنبيهات قوية من قلبه، فلا يكاد يخدع بسهولة.

حتى يأتي نمط لم يعرفه من قبل فيخدعه ويحتال عليه ليحدث ندبًا جديدًا في قلبه يتعرف به على أمثاله وهكذا حتى يتحول إلى نبراس يبصر بقلبه ما لا يبصره الغير بأعينهم..

للنضوج ضريبة قاسية لا يدفعها إلا الأقوياء الذين يستمدون وهج أرواحهم من دواخلهم..

من تلك الإنجازات التي حققوها ومن تلك الصعوبات التي تجاوزوها..

ومن تلك العثرات التي نهضوا بعدها عرفوا عيوب الدرب فقاموا بتمهيدها ورصف مرافقها..

الناضجون الذين لا يحتاجون إلى المدح الخارجي ليشعرهم بوجودهم، إنما يعدونه نوعًا من أنواع الضجيج والثرثرة المبالغ فيها..

فالبصر يمتلكه جميع من شقت عيناه بعافية من الله إنما البصيرة فلا يمتلكها إلا من تشقق قلبه واستطاع الاستفادة من كل تلك المحطات التي مر بها قطاره وفهم الرسائل قبل تكرارها.

فسيظل ذلك الريح ينفذ من تلك النافذة المكسورة حتى تفهم أن عليك إصلاحها..

وستظل تلك المتاعب تواجهك حتى تفهم أن عليك فعل شيئًا ما دائما..

حاول أن ترى ما عليك فعله ولا تحاول إصلاح تفكير الآخرين أو الظروف المحيطة بك؛ لأن ذلك إنما يشهد على عدم نضجك وضيق أفقك.

البصيرة وحدها من تفك لك شفرة الرسالة.. البصيرة وحدها من تترجم لك ما عليك فعله تجاه تلك الأوجاع التي تعتصرك، فإن لم تفهم فإن واقعك سيستمر مدة طويلة وسيطول ألمك وستستمر شكواك..

وما من ألم يشد وثاقه حول رقبتك كذلك الألم الذي تتمسك أنت به..

نعم أنت تتمسك بالألم بإصرارك على عدم فهم الرسالة، بسد أذنيك تجاه النصائح كلها، بهجر المعارف، بتجاهل التأمل، بإدمان لعب دور الضحية أو الشخصية الخارقة..

اترك عنك كل هذا وتعلم، فمن لا يعلمه القلم يعلمه الألم، ومن لا يعلمه الألم فقد استحقه استحقاقًا كاملاً..

ومثله لا يدفع ضريبة النضج إنما يقضي حياته في الشكوى..

وإياك إياك أن تسلك دروب التلاعب في أروقة الناضجين، فيتم استدراجك إلى وجع تطبخه بنفسك ولن يأكله غيرك، فمن تصنعه التجارب لا تلدغه العقارب.

كاتبة قصص قصيرة ومقالات zubaidashaab@gmail.com

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يونيو 4, 2023, 2:43 م

عميقة جدا الخاطرة عمق البحار
إنها رائعة

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يونيو 4, 2023, 3:22 م

سلمتِ..تقرأين بطريقة الغواص المحترف..

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يونيو 4, 2023, 4:47 م

اقل ما يقال فيه اكثر من رائع .. اتمنى المزيد من الكاتبة

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يونيو 4, 2023, 5:03 م

جزيل الشكر استاذ محمد..

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يونيو 4, 2023, 6:16 م

جميل جدا بالتوفيق

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يونيو 4, 2023, 7:01 م

الجميلة هي العينان التي قرأت..

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يونيو 5, 2023, 12:01 م

ما شاء الله من اجمل ما قرأت بعمق وبروية حاولت قدر الامكان التمعن لكل الافكار والكلمات التي صغتيها بطريقة الابداع الخاص بك، واختيارك للموضوع جدا امر مثير للاهتمام فكما ذكرتي كلنا لدينا البصر وقلة منا لديها البصيرة ، 👏👏

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يونيو 6, 2023, 11:29 ص

جزيل شكري وامتناني لأهتمامك..

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
سبتمبر 30, 2023, 10:19 ص - طبوش محمد
سبتمبر 30, 2023, 9:35 ص - طلال أمين الحميري
سبتمبر 27, 2023, 5:44 ص - ياسر الجزائري
سبتمبر 26, 2023, 1:36 م - سهامحمدنبيل٩٩
سبتمبر 26, 2023, 1:04 م - ليلى أحمد حسن مقبول
سبتمبر 26, 2023, 8:04 ص - سكينة أم ناصر
سبتمبر 26, 2023, 7:50 ص - د.أحمد عادل عثمان
سبتمبر 26, 2023, 6:23 ص - خلود محمد معتوق محمد
سبتمبر 25, 2023, 12:34 م - مجانة يمينة
سبتمبر 24, 2023, 8:27 م - أ. د. محمود سطوحي
سبتمبر 24, 2023, 6:21 م - ريم بدر الدين بزال
سبتمبر 24, 2023, 1:56 م - أنس بنشواف
سبتمبر 24, 2023, 12:21 م - مريم محمد إسماعيل
سبتمبر 23, 2023, 5:58 م - بوعمرة نوال
سبتمبر 23, 2023, 1:58 م - محمد أحمد سعيد غالب الشيباني
سبتمبر 23, 2023, 1:28 م - علاء الدين حاتم
سبتمبر 23, 2023, 11:04 ص - ميساء محمد ديب وهبة
سبتمبر 22, 2023, 11:14 ص - ميساء محمد ديب وهبة
سبتمبر 21, 2023, 6:13 م - شيماء بولحية
سبتمبر 21, 2023, 2:11 م - محمد بخات
سبتمبر 21, 2023, 5:20 ص - بوعمرة نوال
سبتمبر 20, 2023, 6:05 م - صفا علي الشرقاوي
سبتمبر 20, 2023, 12:56 م - مجانة يمينة
سبتمبر 20, 2023, 5:34 ص - أسماء محمد حمودة
سبتمبر 19, 2023, 6:09 م - ياسر الجزائري
سبتمبر 19, 2023, 1:12 م - بومالة مليسا
سبتمبر 19, 2023, 8:07 ص - أنس مروان المسلماني
سبتمبر 19, 2023, 7:30 ص - أنس مروان المسلماني
سبتمبر 19, 2023, 7:11 ص - عزالعرب سلمان
سبتمبر 19, 2023, 6:14 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 18, 2023, 5:28 م - أمين عبدالقادر لطف أحمد
سبتمبر 18, 2023, 7:47 ص - سادين عمار يوسف
سبتمبر 17, 2023, 9:13 ص - مها عبدالمنعم عوض
سبتمبر 16, 2023, 4:04 م - عبد الله عبد المجيد طيفور
سبتمبر 16, 2023, 12:14 م - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
سبتمبر 16, 2023, 6:56 ص - رهف ابراهيم ياسين
سبتمبر 14, 2023, 7:27 م - محمود إبراهيم حفنى
سبتمبر 14, 2023, 7:03 م - زكريا عبده عمر عبده
سبتمبر 14, 2023, 11:14 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 14, 2023, 8:53 ص - ليلى أحمد حسن مقبول
سبتمبر 13, 2023, 6:16 م - بوعمرة نوال
سبتمبر 12, 2023, 9:10 م - مايا عز العرب عزالدين
سبتمبر 12, 2023, 8:36 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 12, 2023, 7:28 ص - شروق محمد العمري
سبتمبر 11, 2023, 6:11 م - بوعمرة نوال
سبتمبر 11, 2023, 5:48 م - أ . عبد الشافي أحمد عبد الرحمن عبد الرحيم
سبتمبر 11, 2023, 11:19 ص - صفاء السماء
سبتمبر 11, 2023, 11:00 ص - البراء القاضي
سبتمبر 11, 2023, 9:35 ص - هاني ميلاد مامي
سبتمبر 11, 2023, 6:13 ص - ايمان مسعد الحربي
سبتمبر 10, 2023, 6:27 م - مصطفى ضياء
سبتمبر 10, 2023, 4:24 م - جود معاذ الرفاعي
نبذة عن الكاتب

كاتبة قصص قصيرة ومقالات zubaidashaab@gmail.com