بعيدة هي تلك الصور التي ظننا أنها قريبة، وتلك الانكسارات التي ظننا أننا نجونا منها كانت دانية قطوفها منا اكتمال اللحظة.. لتنقض على قلوبنا كالسباع الجائعة!
فلا تجثو بكل ثقتك على كتف أحد قط فلعل صاحبه يحتاج تحريكه فتسقط.. أو يريد أن يسقطك فيحركه!
"قالت لي صديقة قديمة يومًا ما أنها عرفتني جيدا كما لم يعرفني أحد من قبل.. فقلت لها: "لا.. أنت لم تعرفيني إنما عرفت الجزء الذي يشبهكِ مني فقط".
وربما عرفني الجميع أكثر منكِ ذلك لأنك اقتربت مني..
فعندما نقترب تكبر الصور كثيرا حتى إن أعيننا قد تركز على جانب دونما الآخر..
فقد ترى قصرًا من قمة جبل ولكنك حين تدخله لن ترى غير الأماكن المحيطة بك، وهنا يكمن شر الاقتراب من الأشياء..
في ازدياد عتمتها وفتنتها.. فمن يقعون في دائرة الفتن أشد عمى من الذين يراقبون من بعيد.. ولا أقصد بهذا بعد المسافة بل بعد النظر وانحصاره في زاوية واحدة..
الحقيقة أن العين تبصر، نعم وبوضوح تام لكنها غير قادرة على البصيرة.
إنما البصيرة هي تلك الشقوق والندوب في القلب التي أحدثتها ضربات متكررة مع اختلاف التجارب والمفاهيم التي مر بها الإنسان خاصة إن كان متأملاً فلا تكاد تلتئم..
تلك منافذ النور إلى القلوب التي منها تنفذ البصيرة وتسطيع أن تبصر منها ما لا تراه عينك.
وعين البصيرة لا تفتح ويسطع نورها إلا بالقلم أو الألم، فمن يقرأون كثيرًا يكتسبون تجارب جاهزة بعبرها ودروسها وحكمها الغزيرة دونما الحاجة إلى التعرُّض للمواجع، فتتفتح آفاق الوعي لديهم كما تتفتح زهور الأقحوان البري.
والبعض الآخر لا يحبذون الإنصات إلى التجارب والملاحظات والدروس في الكتب وفي قصص الآخرين، فيتعرضون للألم الشديد حتى يتمكنوا من الرؤية الواضحة..
لتصبح الأشكال فقط من تتغير إنما الأنماط تتكرر وتعرفها قلوبهم وتستشعرها.
يحصل البصير على تنبيهات قوية من قلبه، فلا يكاد يخدع بسهولة.
حتى يأتي نمط لم يعرفه من قبل فيخدعه ويحتال عليه ليحدث ندبًا جديدًا في قلبه يتعرف به على أمثاله وهكذا حتى يتحول إلى نبراس يبصر بقلبه ما لا يبصره الغير بأعينهم..
للنضوج ضريبة قاسية لا يدفعها إلا الأقوياء الذين يستمدون وهج أرواحهم من دواخلهم..
من تلك الإنجازات التي حققوها ومن تلك الصعوبات التي تجاوزوها..
ومن تلك العثرات التي نهضوا بعدها عرفوا عيوب الدرب فقاموا بتمهيدها ورصف مرافقها..
الناضجون الذين لا يحتاجون إلى المدح الخارجي ليشعرهم بوجودهم، إنما يعدونه نوعًا من أنواع الضجيج والثرثرة المبالغ فيها..
فالبصر يمتلكه جميع من شقت عيناه بعافية من الله إنما البصيرة فلا يمتلكها إلا من تشقق قلبه واستطاع الاستفادة من كل تلك المحطات التي مر بها قطاره وفهم الرسائل قبل تكرارها.
فسيظل ذلك الريح ينفذ من تلك النافذة المكسورة حتى تفهم أن عليك إصلاحها..
وستظل تلك المتاعب تواجهك حتى تفهم أن عليك فعل شيئًا ما دائما..
حاول أن ترى ما عليك فعله ولا تحاول إصلاح تفكير الآخرين أو الظروف المحيطة بك؛ لأن ذلك إنما يشهد على عدم نضجك وضيق أفقك.
البصيرة وحدها من تفك لك شفرة الرسالة.. البصيرة وحدها من تترجم لك ما عليك فعله تجاه تلك الأوجاع التي تعتصرك، فإن لم تفهم فإن واقعك سيستمر مدة طويلة وسيطول ألمك وستستمر شكواك..
وما من ألم يشد وثاقه حول رقبتك كذلك الألم الذي تتمسك أنت به..
نعم أنت تتمسك بالألم بإصرارك على عدم فهم الرسالة، بسد أذنيك تجاه النصائح كلها، بهجر المعارف، بتجاهل التأمل، بإدمان لعب دور الضحية أو الشخصية الخارقة..
اترك عنك كل هذا وتعلم، فمن لا يعلمه القلم يعلمه الألم، ومن لا يعلمه الألم فقد استحقه استحقاقًا كاملاً..
ومثله لا يدفع ضريبة النضج إنما يقضي حياته في الشكوى..
وإياك إياك أن تسلك دروب التلاعب في أروقة الناضجين، فيتم استدراجك إلى وجع تطبخه بنفسك ولن يأكله غيرك، فمن تصنعه التجارب لا تلدغه العقارب.
يونيو 4, 2023, 2:43 م
عميقة جدا الخاطرة عمق البحار
إنها رائعة
يونيو 4, 2023, 3:22 م
سلمتِ..تقرأين بطريقة الغواص المحترف..
يونيو 4, 2023, 4:47 م
اقل ما يقال فيه اكثر من رائع .. اتمنى المزيد من الكاتبة
يونيو 4, 2023, 5:03 م
جزيل الشكر استاذ محمد..
يونيو 4, 2023, 6:16 م
جميل جدا بالتوفيق
يونيو 4, 2023, 7:01 م
الجميلة هي العينان التي قرأت..
يونيو 5, 2023, 12:01 م
ما شاء الله من اجمل ما قرأت بعمق وبروية حاولت قدر الامكان التمعن لكل الافكار والكلمات التي صغتيها بطريقة الابداع الخاص بك، واختيارك للموضوع جدا امر مثير للاهتمام فكما ذكرتي كلنا لدينا البصر وقلة منا لديها البصيرة ، 👏👏
يونيو 6, 2023, 11:29 ص
جزيل شكري وامتناني لأهتمامك..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.