من فيض نبلك ومحبتك التي تسع كل مثقفي وقرَّاء مدينتك الفاضلة، جئت ألقي شهادتي ممزوجة ببهاء الاعتراف.
إنها لحظة فارقة تختزل صداقة عمرها أزيد من أربعة عقود، يصعب الإحاطة بمختلف تفاصيلها، سأكتفي في هذا المقام بشذرات من وحي سيرة صديق بنكهة أخ...
إنه نموذج مثالي لصديق حقيقي، يقرؤك دون حروف، يفهمك دون كلام، يحبك دون مقابل، صداقته زهرة لا تذبل، ووجه لا يصدأ، تزداد جمالاً وتألقًا كلما مر الزمن، أحسبه فردًا من عائلتي أنجبته مواقف الأيام، زين في الرخاء، وعدة عند البلاء، وسع صدره المدى، سخي المودة، حلو الطباع، يخرج ابتسامتك من قلب حزنك، مهما باعدت بيننا السنون والمواقع، صداقتنا ماء عذب لا يصيبه كدر، تعبر الدنيا إلى لقاءات الفردوس على سرر متقابلين...
جمعني وإياه في البدء النضال بالكلمة، والنضال بالكلمة تباث وقناعة وهوية، عشقنا معًا بلاط صاحبة الجلالة، كنا نتلمس الخطى، ننسج الأمنيات، نناطح قامات أكبر من سننا، برقي الفكر والقناعات، نتقاسم ما نكتب قبل أن نرسله للصحف والمجلات... عايشت همومه وانشغالاته الفكرية والأدبية التي لم يتوانَ في اطلاعي عليها... آمن بمشروعه في الحياة، وعمل جاهدًا على تحقيقه. بعزيمة لا تلين.. الإقدام والجرأة والشهامة عنوان لسيرته... شغفه الشديد بالشعر جعل منه صوتًا شعريًّا مميزًا في مضمار قصيدة النثر بلغته الباذخة ومخياله الجارف..
معين إبداعاته لا ينضب، ما دامت وشائج التعلق لديه مربوطة بحبل سري متين، يضرب بجذوره في أرض بلدتي: مسقط الرأس، ومربع الصبا، وحضن الفؤاد.
صديقي مخلص الوفاء، صح الإخاء، يقيل العثرة، ويغفر الزلة، بئر أسراري، ووزير أفكاري، ردف عند الحاجة، وأنس من الوحشة، رزق كريم، وهدية من رب رحيم. جميل الذكر، طيب الأثر.
الحديث عن صديقي ذو شجن مملوء بالمعنى، عرف عنه نزوعه الواضح إلى الثقافة، ونفوره من السياسة التي خبرها، يتحاشى الخوض في المعارك الخاسرة.. لم يذعن يومًا أو يستكين.. يمقت الظلم والاستبداد، وينتصر للمظلومين ما استطاع... واجه سهام الانتقاد بأناقته المعهودة، وتحدى مخاطيف الكيد والحقد والنذالة، بقي أصيلاً كما عرفته، لا يعادي ولا يكره، ولا يعرف قلبه ممرًا للابتذال الإنساني، صديق بقلب مستريح لو مشى في الروح ما أثقلها:
مر خفا على ما شف من لغتي
ثم اطمئن إلى الأعماق فانغمس.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.