أنظرُ حولي فأجد مُلهياتٍ في الحياة كثيرة، ومن المعروف أن طلب العلم فريضة على كلّ إنسانٍ، فلماذا أشعر بكراهيةٍ أو رثاءٍ مِن الناس لطالب العلم؟
في علم النفس يَعرف العلماءُ أن العقل البشريّ يعمل بطريقة معيَّنة، وهذه الطريقة تميل إلى النزعة العشوائية والاستطرادية في التفكير. إذا فتح الإنسان كتابًا أو استمع إلى حديث في الإذاعة فإن العقل لا يظلّ مركِّزًا فيما يَقرأ أو يسمع لمدةٍ طويلة؛ ذلك لأن العقل إذا سمع كلمة معيَّنة لها ذكرى ودلالة عميقة أو تافهة فإنه يترك الحاضر والواقع ويندفع لا إراديًّا في عملية تذكُّر وتحليل معقَّدة.. طريقة عمل العقل البشريّ محيِّرة جدًّا.
لقد سمع أحد الحكماء العرب رجلًا يقول إن التعلم في الصغر كالنقش على الحجَر، وأن التعلم في الكبر كالنقش على الماء، وأن الطفل أسرع حفظًا من الرجل الكبير، فاستنكر الحكيم هذه المقولة قائلا: إن العقل واحد، ولكنَّ الكبير يكون أشغَلَ، يعني أشدّ انشغالًا بأمور الحياة.
إن الكبير يكون قد تحمّل المسؤوليّة وتعلقت برقبته زوجته وعيالٌ عليه أن يُطعِمهم ويَكسوهم، وعليه أن يركز في عمله لجلب المال وتوفير معيشة كريمة غير ضنك لأسرته، فهذه أشغال الكبير.. كما أن الصغير يكون متأثرًا بفكرة الثواب والعقاب، فالطفل قد يندفع في حفظ قصيدة من أجل جنيهاتٍ. أما الكبير فهو كبير الهمّ، وأمله بعيدٌ.
وطالبة العلم أراها إذا بلغت المرحلة الإعداديَّة سمعتْ كلمة زواج، وقالت لها أمُّها -إلا قليلًا من الأمهات الفاضلات- إن التعليم طريق مظلم، وإن مَن اجتهدنَ وتعلَّمن أصبحن الآن هُنَّ وشهاداتُهُنَّ في أحضانِ أزواجٍ يُنفقون عليهنَّ. التعليم عند هذه الأمّ هو مرحلة تهذيب اختياريَّة، فالأمّ تُسلِّي ابنتها بالذهاب إلى المدرسة حتى يأتي الزوج الصالح والعريس الكيِّس. وإلا فما الذي أخذه المتعلِّمون؟ إنهم على المقاهي جالسون يبكون على عمرهم الضائع، ويتمنون لو كانوا قد تعلموا صناعة يكسبون بها قوت يومهم.
تنشأ البنت في هذه الجوّ، فلا تعرف للعلم طعمًا، ولا تتذكّر منه إلا تعبًا لا فائدة فيه، فكيف تحرص عليه؟! إنها حين تفتح الكتاب تنزلق أفكارُها شيئًا فشيئًا إلى فكرة الزواج، وهيئة الزوج، وعمل الزوج، ودَخل الزوج، ومنظر البيت، إلخ.
والعجيب أن الأمّ تبيع ابنتها في أقرب محطة وتقرأ عليها الفاتحة؛ لأن البنت كانت عبئًا ثقيلًا، وتعليمها كان يُضعف اقتصاد المنزل.
كلما كبرت البنت ازداد الإلحاح في هذا الموضوع، وصار تفكيرها فيه أعظمَ وأعمق، حتى ينتهيَ الأمرُ بالزهد في الكتب والتعلُّم، وماذا بعد العلم إلا طريق الجهل والخرافات؟
وكلما كانت ظروف المتعلم أصعبَ -من الناحية الماديَّة- كان التعليم عليه أشقَّ، نفسيًّا وجسديًّا.
إنه يشعر أنه يسعى وراء الآجل الذي لا يطمئنُّ إلى حدوثه.. يشعر أنه يجري خلف حُلمٍ ينتهي بيقظةٍ مؤلمة وإفاقةٍ مُزلزلة.
هنيئًا لِمَن وجدَ أهلًا كرامًا يعرفون للعلم قدره ويُنفقون على أصحابه
طوبَىٰ لِمَن وجدتْ أمًّا مثقَّفة تحاول أن ترتقي بالذوق والعقل ما استطاعت!
طوبى لمن لم يَشغل غيره عن طلب العلم!
طوبى لمن لم ينشغل بكلام الناس وصَبَرَ في سبيل العلم!
أبريل 10, 2023, 7:56 م
موضوع واقعي وملفت ،،سلُمت أناملك.
أبريل 11, 2023, 10:20 م
أشكرك شكرًا جزيلًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.