لقاؤنا الأول كان وسط هذه المدينة، في شارع جمال تحديدًا قبل سبع سنوات من اليوم، سبعة عقود ليس إلا، بعدما أكملتُ دراستي الثانوية تحررت من قيود القرية إلى واحة التعاسة وسط هذه المدينة، وفي عز الظهيرة وصلت، كانت وما زالت كلها تحترق، تحترق حربًا وصيفًا.
عانقتها رغم هذا ولم أحترق؛ لأنني قروي، وهذه المتغيرات الطبيعة لا تؤثر في خشونة جلده وصلابة عظمه، لكن نقطة ضعفه كانت في قلبه القاحل، الفارغ، المحروم من وظائفه العاطفية سجينة الطبيعة القروية الجلفاء.
ها هو اليوم هاربًا منها وينفك من قيودها، يعلن حريته أول ما وطئ هذا الشارع الذي يرمز إلى الحرية، وتجسد فيه، وتوسدها تحت خده فنام، نام والمشردون على الرصيف يبحثون عن وسادة مفقودة، وبين الأرصفة يثور الأحرار يبحثون عن السيادة، وأنا هنا لا وسادة ولا سيادة، لكني أبحث عن سيدة.. فتاة.. مدينة أو حتى وطن أسكنه ويسكن وجداني.
وسكنت في عيني، امرأة تشبه هذه المدينة تحترف الحرائق، بركان يجرف كل شيء في طريقه، حتى جسدي القروي الخشن احترق فيها، رغم أنه لم يكن في طريقها، بل كان متفرجًا منبهرًا أمام تلك السيول النارية والدمار حولي.
وليس جنونًا أن أزيد على جنون العشاق، وكل من أحبوك قبلي، وأسكن هذا الركام بالقرب منك، ولا بأس إن احترقتُ؛ فأنا أحبك حتى الهلاك، حتى الاحتراق الأخير.
لكن متى يأتي هذا الأخير، بعد كم عقد وأنت تنطفئين في أي فصل يهدأ لهبك، أظنك مخلدة وعنيدة لا تهدئين حتى ونحن في أيلول والأجواء تقل حرارتها، وأنتِ أكثر احتراقًا واشتعالًا، وكأنك ثائر أو فيك شيء منهم، أو أنك الأمانة التي تركوها؟!
لكن ماذا تركوا فيك غير الاحتراق، وكأنك شعلتهم التي نوقدها في كل عام تذكارًا لمجدهم الخالد.
الآن، أخبريني يا شعلتي هل تقبلين أن أقبلك على وجنتيك، وأموت على شفتيك، وتُوارى جثماني إلى نار أحضانك، وسط ركام صدرك حيث الدمار والخراب الذي يخفيه جلبابك؟
في هذا العمر، في غرة شبابي ليس لي حلم غير أن أموت، ليس أي موت إنما كالأحرار حينما يرتقون، ويقدمون أرواحهم بسخاء مقابل أن يحيي البوساء، وسيل النار من دمهم الطاهر يجرف ويحرق كل شيء في طريقه، فلا صوت للبغاة وكراسي الظلم المستبد من بعده.
وليس لي حلم، غير أن أخلف بعدي فتاة أكثر منك اشتعالًا.. جنونًا.. حبًّا.. عنجهيةً.. غطرسة.. ولا يقوى على حبها إلا ثائر مجنون، ولا يعشقها المراهقون؛ لأنهم ليسوا أهلًا لعشقها، وليس فيهم قدرة على الاحتراق، إنما يسرقون باسم الاحتراق مثلما يسرق هؤلاء، الآن بدعوا إيقاد ذاكرتك، لا تخافي ولا يخف لهبك، فما زلت أنا وغيري نحبك صدقًا ولسنا لصُوصًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.